يظل الموت مصيبة، ويصبح وقعه قاسياً وإن كان المتوفى شهيداً نعته السماء، فالموت موت، وألم الفراق هو حزن عميق، يظل ينخر في القلب حتى يدميه.
لما قُتل جعفر بن أبي طالب، دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على زوجته أسماء بنت عميس، وقال: "ائتني ببني جعفر"، فأتت بهم، فشمَّهم وقبَّلهم وذرفت عيناه، ذاك رسول الله يبكي جعفر، وهو الموحى إليه من عند عليم خبير، يعلم مستقره وما آل إليه، ولكنه يبكيه؛ يبكي الفراق، يبكي الوداع.
تلك الدموع المنهمرة من أعيننا تطهرنا، تطهر ما بدواخلنا من قبح وشوائب، تجلي غشاوة القلب، وتكشف له ما وراء الحجب، حقيقة الدنيا؛ حيث العدم ومن العدم يولد كل شيء.. الدموع دليل وفاء وإخلاص، دليل حياة أيضاً، فموتى القلوب لا يبكون، ولا يعرف الدمع لأعينهم سبيلاً، ذاك أن الرحمة لا تنزع إلا من شقي، والدمع هو مرادف الرحمة.
دموعك الذارفة حزناً تساعدك على تحمل الموقف، تشعرك بالارتياح، وتسليك في لوعتك، إذاً ابكِ، واذرف الدموع ما استطعت، واجعل بين عينيك المسفوحة مقولة صاحب النظرات "إن السماء تبكي بدموع الغمام.. ويخفق قلبها بلمعان البرق، وتصرخ بهدير الرعد، وإن الأرض تئن بحفيف الريح، وتضج بأمواج البحر، وما بكاء السماء ولا أنين الأرض إلا رحمة بالإنسان، ونحن أبناء الطبيعة فلنجارِها في بكائها وأنينها.. ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفؤود وتبتسم سروراً ببكائك.. واغتباطاً بدموعك؛ لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور.. تسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء: إنك إنسان..".
هناك قلوب تهطل دمعاً صامتاً، تسفح نواحاً وندباً، تذرف عويلاً لا صوت له، كفؤاد أم فقدت فلذة كبدها، كانت تتنفس حبه، ولا ينبض قلبها إلا بنبض أنفاسه الفتية، أمست اليوم مكلومة لفقده، كفؤاد فتاة غادرها أبوها وتركها مفطورة اللب، يتقطع قلبها شوقاً لضمة صدره الحنون.. تلك القلوب يا حميم، كفكف دمعها ما استطعت، واشرح صدورها التي ضاقت بها الأرض بما رحبت، ولك الجنة.
"وتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ" مكظوم على الحزن" مملوء منه، مُمْسِك عليه لا يُبينه، نبي يبكي نبياً، يبكيه لوعة واشتياقاً، يبكيه حرقة وحسرة، يبكيه صامتاً من شدة الوله.. نبي معصوم يعرف ماهية القضاء والقدر، ابيضت عيناه حزناً واعتصر فؤاده آسفاً على فراق دنيوي، نبي الله يعقوب عاش معظم حياته في كبد، لهفة ليوسف.
لست هنا أدعُ إلى الحزن، بل هي محاولة للكشف عن طهر الدموع، اذرفها لتعرف حقيقة الحياة؛ لتدرك أن العمر قصير، لتراجع نفسك مع مَن حولك، وحين الفراق ابكِ، ولكن لا تُطل الحزن، وامسح بيمينك دموع اليتامى، والثكالى، والأرامل، واحترم أوجاعهم، وكن لهم سنداً ونصيراً، وأكمل مسيرة من رحل، فهو يتطلع منك لكل خير، وتذكر أنه يباهي بك بين صحبه من الأموات، فاهده ما يحب من خير.
واعلم أن الحياة لا تتوقف، والألم لا يدوم، ومع الوقت سيبدل الله أوجاعك أفراحاً، فجعفر -رضي الله عنه- ضمن الجنة، وعياله كفلهم رسول الله ومسح على قلوبهم، وزوجته أسماء أبدلها الله بالصدّيق أبي بكر رفيق الحبيب في الجنة، وسيدنا يعقوب رد له بصره، وعاد له بنيه إخوة متحابين لا أعداء متحاربين.
وإن كان أحد والديك ميتاً، فلا تطل الحزن، واعلم أن باب البر لا يزال مفتوحاً، تفقَّد أحوال أصحابهم، وصِل أقرباءهم، وادعُ لهم، وتصدق عليهم، واجعل من دموعك وقوداً لأعمال الخير.. ولا ضير في أن تبكي، فالدموع طاهرة.. ونحن مشوبون بالأخطاء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.