قرأنا كثيراً عن رحلات ومغامرات الكثيرين في دول أوروبا، وعن انبهارهم بالمعالم السياحية والآثار التاريخية بها، وعن مظاهر التطور والمدنية هناك.
لكن، دعني -قارئي- أجعل رحلتي مختلفة عنهم، بما سأنقله لك من مضمون ما رأيت ولا يبهرنا فقط جمال ما رأيت، وأتخطى معك مرحلة القراءة إلى مرحلة المعايشة، ورصد مضمون فكر الشعوب الأوروبية من خلال رحلتي كمقارنة لفكر مختلف، وإنسانية حقيقية؛ بل دعني أنقل لك انطباعي عن عمق الإنسان والمكان في تلك الدول.
أولى محطاتي كانت باريس، عاصمة النور والجمال كما يطلق عليها عالمياً، على الرغم من أن العاصمة الهادئة استقبلتني بغياب شمسها وقت الظهيرة في يوم ماطر برقَّة بالغة ودفء فريد.
يحدثني المرافق لي من المطار إلى الفندق -وهو جزائري الأصول، فرنسي الجنسية- عن امتنانه لحالة الطقس في ذلك اليوم تحديداً بالنسبة لي خاصة، بأن الطقس دافئ ومطره عبارة عن زخات رقيقة من قطرات الماء الدافئ، عكس ما ساد في الأيام السابقة لزيارتي لباريس، حيث ساد طقس قارس البرودة مع هطول الأمطار الشديدة والثلوج التي يعتادها الفرنسيون، والتي كانت ستصبح عائقاً لحركتي واستمتاعي بباريس خلال زيارتي السياحية لها.
كعربية غير معتادةٍ الصقيعَ وتساقط الثلوج، وغياب الشمس، فقد طُلب مني اعتياد غيابها؛ لأنها عادة تهجر سماء باريس في الشتاء أياماً، لا يعلم أن زخات المطر المتواصلة تلك ممكن أن تشل وتعيق حركة ملايين المصريين في محافظة بأكملها في مصر؛ لغياب شبكة صرف تتناسب مع دولة كمصر لها تاريخ مشرف، وواقع أصبح مخجلاً في غياب البنية التحتية لدولة بها مظاهر حضارية تاريخية ولمسات ليست عميقة لتطوُّر وتنمية حقيقية الآن.
أخذ مرافقي إلى الفندق يذكر لي أسماء ما نمرّ عليه من مبانٍ وقصور، فهذا قصر الإليزيه حيث يحكم فرنسوا أولاند فرنسا مقارناً له بالاتحادية في مصر، وهذا برج إيفل الذي تراه باريس من جهات مختلفة؛ لعلوّ ارتفاعه وتوسُّطه باريس بجانب نهر السين مقارناً به مرة أخرى بنهر النيل العظيم والأهرم الفرعونية التي تقف في شموخ وسط مصر والتاريخ، وهذا متحف..، وهذا محل..، وهذه مبانٍ يعود تاريخ بناؤها لمئات السنين، حيث يمنع القانون الفرنسي تغيير واجهاتها؛ للحفاظ على الطابع المعماري القديم الفريد لتلك المدينة التاريخية الجاذبة للسياحة بجذورها الحضارية مع تحضُّر فكرها مصحوباً بلمسة مدنية رقيقة في المباني، بحيث لا يجور الجديد على القديم، ولا يعوق "الأنتيك" كما أطلق عليها "مرشدي المؤقت" الوجه الجديد للعصر الحديث.
لكني أنا من قارنت هذه المرة تلك المباني الأثرية وسط باريس بمباني وسط القاهرة المشابهة جداً لها في الشكل المعماري والعمر التاريخي لها، فلكل دولة ما تفخر به من تاريخ ولمصر منفردة حضارة 7 آلاف سنة، لا يعادلها ولا يصل لقامتها تاريخ لأي دولة.
كل مكان أراه أو أسأل عنه أجد الإجابة عند مرافقي الودود، مقرونة إجابته دائماً بالوقت اللازم للوصول للمكان، سواء سيراً على الأقدام أو عن طريق شبكة مترو الأنفاق العملاقة.
إنه الوقت الذي يعدّه الأوروبيون أثمن ما يملكه المرء، فلا يجب إهداره في مواصلات بطيئة وإن كانت مزدحمة وقت الذروة، ولا يجب الاستهانة بالوقت؛ لأن ببساطة عمر الإنسان مجرد دقائق وساعات تكون أيامه وسنواته، فتحرص الدولة على تذليل سبل الحياة لجعل أوقات الفرنسيين أكثر سعادة، وأقلها تكلفة في الوقت والمال والمجهود.
ولأني سيدة محجبة، فأنا مسلمة معلنة وعربية واضحة في مجتمعات تعاني إسلاماً موصوماً بالإرهاب، "فمعظم العمليات الإرهابية التي تحدث في أوروبا عادة تنسب دائماً للعرب، المتطرف في دينه، وأكبر مثال إرهاب إسلامي هو داعش".
كنت أخطو بين نظرات الفرنسيين، وأسير بين تفحُّصهم لي أحياناً وتوجسهم مني أحياناً أخرى، وبين كثير من لطفهم معظم الأحيان، ولا أنكر أنني كنت مهيأة نفسياً لتلقي احتكاك غير ظريف من أي شخص في بداية زيارتي لأوروبا بسبب حجابي، ولا أنكر أن هذا التوجس انعدم مع أيام رحلتي بين الدول الأوروبية التي وجدت شعوبها حريصة من "الآخَر" ولكنها لطيفة معه، تعامله بحذر لكن برقَّة، تضع إطاراً للتعامل معه يسمى الاحترام المتبادل، فلا تعدَّيَ على الآخر لمجرد اختلافه في العرق أو الدين أو الدم، ولا إهانة أو تعالي بين الناس.
فقد تجد مديراً وعاملاً بسيطاً يقفان متساويين دون تأفف بعضهما من بعض في مترو الأنفاق، أو لنقل دون نظرة دونية، أو تفاخر أو فضول، دون أن أجد من يتندر بملابسي المغايرة لملابسهم، دون أن يحرجني أحد بسبب حجابي، دون أن يترصدني أمن أو شرطة للاشتباه فيَّ لأني مسلمة، دون المساس بحرية اعتناقي دين الإسلام وفروض زيه، دون أن يستوقفني الجزائريون أو المغاربة أو التوانسة "الذين أعدهم مستعمرين باريس لكثرتهم هناك" ليفرضوا علي فقه ديني بانتزاع الحجاب من وجوبه بإفتاءات شيوخنا العربية المتضاربة، أو كما يفعل الكثير من المتشددين دينياً في مصر، الفارضين أنفسهم على الآخرين بالنصح تارة والتوبيخ تارة أخرى.
ولا أنكر انبهاري الوحيد في عاصمة الجن والملائكة، حين عرفت أنه مسموح لي "كمسلمة محجبة" بدخول أي كنيسة أريدها. وبالفعل، قمت بزيارة كنيسة نوتردام، وكنيسة القلب المقدس، اللتين يعدهما العالم المسيحي علامة وقيمة في التاريخ المسيحي، ويعود انبهاري لعدة أسباب يعانيها الكثيرون في العالم العربي، حيث يُمنع دخول المسلمين كنائس المسيحيين والعكس أيضاً صحيح "لأكون منصفة"، ولأن المجتمع يسلبنا هذه الرغبة ويزجرنا إذا ما فكر أتباع أي دين في دخول دور عبادة دين آخر.
وكم كنت أتمنى رؤية دور العبادة الموازية للمسجد، وسعدت برؤيتها من الداخل وتفحُّص تفاصيلها من صلاة، وتراتيل وطقوس دينية تختلف تماماً عن طقوسنا بداخل المسجد في ظاهرها، لكنها مشابهة جداً في جوهرها وهدفها، بالإضافة إلى إمكانية شراء تذكارات منها، والذي أسعدني استقبال قسٍّ من الكنيسة للزائرين بودٍّ ولطف بمن فيهم أنا، دون التوجس أو الرفض.
بل ساعدني الكثيرون ممن في الكنائس لالتقاط صور تذكارية بداخلها وخارجها بلطف شديد، في تناغم إنساني فريد بعيد عن تصنيف ديني أو نبذ عرقي، فالدين لله والطقوس مختلفة والاعتناق يخص صاحبه لا شيخه أو قسيسه.
وقتها، استحضرتْ ذاكرتي تجربتي في السعودية عند ذهابي للأراضي المقدسة لتأدية العمرة منذ سنتين لأول مرة، حيث استوقفني شيخ من جماعة الأمر بالمعروف أنا وصديقتي ووالدتها وأختها وجارتها؛ لتوجيه اللوم لنا أمام الكعبة المشرفة، موبخاً لنا، ذاكراً أحاديث نبوية تخيفنا وتحرمنا من الجنة! فقط لأننا نرتدي العباءات السوداء ولا نرتدي الخمار أو النقاب لتغطية الوجه، أو تجاوزاً لتغطية الرأس إلى ما بعد الصدر أو إيصاله للركبة أفضل!
يقف بيننا وبين الكعبة المشرفة حائلاً ومانعاً لنا من الوصول للكعبة والطواف بها بنهره لنا وتوجيهنا للعودة إلى السوق لشراء ذلك الحجاب الساتر كما يدعوه، معطياً لنفسه صفة الوصاية علينا "رغم تجاوزنا الأربعين عاماً"، بتوبيخنا وتعذيبنا دنيا وآخرة بما يذكره من أحاديث نبوية عن كاشفة الوجه أو محجبة مثلنا دون غطاء يصل للركبة فوق العباءة الفضفاضة السوداء!
وتذكرت أيضاً حديث تلك الجارة الكويتية التي تخاف ابنتها من الإفصاح عن أنها مسلمة شيعية في مدرستها حتى لا تترصدها المدرسات السُّنيات هناك، وأيقنت أنني في أوروبا رأيت إسلاماً في غير المسلمين ورأيت بلاد العرب بلا فكر الإسلام أو جوهره أو سماحته.
وتوقفت ذاكرتي عن سرد الكثير من المواقف المشابهة حين استحضرت صور ما يحدث في سوريا واليمن من تدمير وسفك دماء وتهجير وتشريد لشعبهما، بسبب نزاع طائفي بين المسملمين المكفِّرين للآخر بكل سهولة ويسر. "ولا أنكر الجانب المظلم لمصالح الدول العربية والغربية البترولية في تلك الحرب الدينية المزعومة" كأنهم الله جل جلاله، في إصدار صكوك الجنة والنار لمن صنَّفوهم كفاراً أو مؤمنين على الرغم أنهم جميعاً مسلمون، أو قتل وتهجير المسيحيين الآن في عريش مصر تحت اسم تنظيم داعش الإرهابي الإسلامي!
فالحرية ما جاء بها الإسلام، والعتق من الاستعباد الفكري والجسدي للإنسان، فقد جاء الإسلام بتعاليمه وسماحته وقبوله للآخر وكفل حرية اعتناقه، ولم يأت بالأوصياء عليه، سالبي حرية الإنسان في ممارسة طقوس دينه بقناعاتهم، متحمِّلين تبعات أفعالهم بينهم وبين خالقهم.
في باريس، رأيت المسلم والمسيحي واليهودي أيضاً، لا يستوقف أحد الآخر، ولا يزجر أحد غيره، لمجرد اختلافه عنه، وجدت مجتمعاً مشغولاً بنفسه؛ هذه فتاة تريد اللحاق بجامعتها، وهذا عامل يريد القيام بما كُلفه من عمل دون تقاعس، وهذا موظف كل ما يشغله القيام بواجبه تجاه عامة المواطنين، لا وقت للانشغال بالآخر واقتحام خصوصيته، ولا وقت للمهاترات والجدال والنقاش فيما لا يعني الآخرين، هو الوقت الذي يحرصون على عدم إهداره، هو الوقت الذي يعني ساعات عمل يقابلها راتب يتناسب مع طبيعة العمل وما تم إنجازه من عمل، بحيث يضمن ويكفل لصاحبه حياة كريمة.
ما كان يشعرني بالدفء دائماً، الجالية العربية هناك، خاصة شمال إفريقيا كما ذكرت، يحاولون مساعدتي؛ لأني لا أعرف التحدث بالفرنسية أو قراءتها، وهناك فرنسيون أيضاً تطوعوا لإيصالي لمحطة مترو الأنفاق أو الشارع الذي أريد أن أصل إليه، دون فضول، أو مضايقة لي، أو تطفل.
السؤال الوحيد الذي تكرر سؤاله لي بود: "من أي بلد أنت؟!"، ولا أبالغ في أن ردهم جميعاً تمحور أما عن أنهم سبقوا أن زاروا مصر وإما أنها بلد جميل.
رأيت السعادة في عيون السائح والمواطن والمهاجر، لا يشعر أحد منهم بالاختلاف في المعاملة أو سوء المعاملة أو تفضيل البعض على الآخرين.
استوقفني دائماً السائحون الصينيون، فهم في قمة الانضباط والالتزام بالقوانين، بالغي الاهتمام بدراسة الحضارات، لا يعادلهم في نظري شعب آخر في أدبهم ولطفهم وتعاونهم.
قوس النصر، جعلني أقارن بين نظرة الشعوب للحروب، حيث أراد نابليون Arc de Triomphe تخليداً لانتصارات الجيوش الإمبراطورية، حيث نقش على جدرانه أسماء قادته العسكريين وأسماء انتصاراته، وبعد الحرب العالمية الأولى أقام الفرنسيون قبراً للجندي المجهول بشعلة دائمة أسفل القوس تخليداً لذكراه.
وقارنته من فوري بالنصب التذكاري للجندي المجهول في مصر الذي نقش عليه أسماء الجنود العظام الذين فقدوا أرواحهم في حرب أكتوبر/تشرين الأول، وكان الشكل الهرمي للنصب لتخليدهم كالأهرام في تاريخ مصر، فهناك من يفخر بقادته، وهناك من يفخر بجنود حققوا النصر والفرق كبير بين الحالتين.
ولأنها عاصمة الموضة، فلم أجد سوى الأناقة في ملابس كل من وقعت عيناي عليه، وجدت شعباً بمختلف مستوياته المادية والاجتماعية أنيق الملبس، مجتمعين على الالتزام بالشكل الجمالي للمظهر والجوهر في تعاملهم، والمساعد لذلك أن أسعار الملابس عادية جداً إذا ما قورنت بدخل الفرد هناك، ما عدا بيوت الأزياء المخصصة للأثرياء، وهي عادةً قليلةٌ.
وأخيراً، أطلقت عليها عاصمة الهدوء، فلا ضجيج للمارة ولا صوت نفير السيارات، ولا كلاب ضالة ولا قطط شوارع، ولا أغاني مزعجة تصدر من المطاعم، ولا موسيقى صاخبة تفرض عليك من أحد، الجميع يرتدي سماعات الأذن، الجميع راقٍ في أسلوب حياته التي اختارها، باحترام لقانون ملزم للجميع دون استثناءات، بلطف غير مخصص لدين أو جنسية، برقيٍّ يعبر عن مدنية حقيقية للإنسان قبل المكان، فهي عاصمة أناقة الفكر قبل الملبس بإيجاز.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.