بين الرضا والحلم.. يئسنا قبل أن نبدأ

نتجرعُ ترياق الرضا بكثرةٍ رغم أن مفعوله غالباً يبقى ظاهرياً لا يتجاوز برزخ الوجه مبيناً تماسكاً لا بأس به في أشكالنا، ومظهرنا لا يعدو إلا باطن النفس؛ حيث ينقلب إلى يأس مزرٍ قميءٍ يعتريها، حاشرة صاحبها في ممرات اليأس التي لا مناص منه في حال الاصطدام بحجر الواقع المنافي للأمور المستوجبة وجودها لتحقق الشعور بالرضا الحقيقي الذي هو فعلاً غاية بذاته.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/14 الساعة 01:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/14 الساعة 01:48 بتوقيت غرينتش

بين اللازم والملزم والالتزام، وبين الحاجة النفسية وقيود المجتمع المُلزمين على إقفال أصفادها على أيدي أرواحنا بالإكراه.. هناك أعتى الحروب الصامتة.

ما زالت هذه المعارك رغم جلائها في النفس ووضوح أثرها غائبةً تماماً عن إدراكِ العقل ومستعصية على التفسير في عدم قدرتنا على إيضاحها وإصلاحها للواقع المادي عبر أي شكل من أشكال الإيحاء والتعبيرات على اتساع وتعدد ألوانها.

ما زلنا نحاول التعامل مع واقعنا المزداد في ظلمته بين الاستمرار والتطلع إلى أحلام شخصية وعامة تحطمت على أعتاب وطن أسير وثورة يتيمة ومتسولين عليهما ومتاجرين بهما ومقامرات على الحرث والنسل لإهلاكهما، ومزادات على المستقبل، وماضٍ لا يمكن الرجوع إليه لتصحيح الخطأ، وحاضر متاح غير متيح لنا شيئاً، كل هذا نحاول التأقلم معه عابثين تحت بند "الرضا" الذي ندسه بين حجري رحى تلك الحرب الصامتة، عسى أن تخف وطأة اصطكاكها ولا تطفو أعراضها علينا، حتى إن كلمة رضا أصبحت تعني بشكل أو آخر "غالباً لا دائماً" انعدام التطلع وإزالة الطموح من فهرس العقل ونحر كل أملٍ في التغيير للأفضل.

نتجرعُ ترياق الرضا بكثرةٍ رغم أن مفعوله غالباً يبقى ظاهرياً لا يتجاوز برزخ الوجه مبيناً تماسكاً لا بأس به في أشكالنا، ومظهرنا لا يعدو إلا باطن النفس؛ حيث ينقلب إلى يأس مزرٍ قميءٍ يعتريها، حاشرة صاحبها في ممرات اليأس التي لا مناص منه في حال الاصطدام بحجر الواقع المنافي للأمور المستوجبة وجودها لتحقق الشعور بالرضا الحقيقي الذي هو فعلاً غاية بذاته.

تقهرنا الالتزامات الجبرية المفروضة علينا مضيقة الحصار علينا حصاراً فحصاراً دافعة بنا إلى حواف متهلهلة آيلةٍ للانهيار، خصوصاً عندما نرى أقراناً لنا في الطريق التي لم نمنح حتى الحق في التماسه أو لذة التطلع للمسير فيه.. هناك تتقهقر الألباب التي لا يمكن لها استيعاب وتقبل الأمر بحال من الأحوال مهما كانت مُعزّيات النفس فعالةً ونشطة، ومهما لجأتْ إلى الروحانيات الدينية وفزعت للدعاء والتضرع التي لا يمكن إنكار أثرها في تخفيف الألم، والحَدّ من استشرائه بصورة جيدة وتضئيلِ النزاع، إلا أن إلحاح النفس فى المطالبة بالحصول على حقها بشكل آنيّ أمر خارج عن السيطرة، غير قابل للكبح والتحكم فيه بسبب فوضويته وسريانه السريع التأثير فيها كسريان النار في الهشيم والسرطان في الخلايا، حتى إن القدرة تنعدم على التعبير عما يجري داخل نفسك المزدحمة بأمور لا تسعفك الأبجدية في إيصالها والإفصاح عنها؛ حيث يعلق الكلام في الحنجرة ككتلة شائكة جاعلة حتى التنفس أمراً مضنياً وشاقّاً.
تضج النفس لعجزها.. كيف لا وهي تحاول نقل ما لا يمكن نقله ووصف ما يستحيل وصفه؟! تحاول نقل شعور كامن داخل العظام التي تصطك له وترتعد ولا يمكن أن يُجسّد هذا الشعور خارجها فهو أمر خارج عن المنطق والعقلانية، وهذا أمر طبيعي في ظل واقع لا يمتلك الحد الأدنى من المنطق واليسير من العقلانية.

ويزداد القهر لعدم القدرة على الحظي بوصف مناسب ولملمة الفوضى التي تعترينا، فتذوي الروح إلى ركن مظلم ملتفح بالنسيان من هذا العالم منبوذين من منه ومن أنفسنا، منكفئين متسائلين عن الجدوى من الأمل والحلم والاستمرار في التفكير، عالقين في حلقة مفرغة تضيق حول أعناقنا وأحداقنا، متمنين الوصول إلى درجة من التبلد واللامبالاة قدراً تتساوى فيه مشاعر الفرح والحزن، ويغدو فيه اكتئابنا أمراً طبيعياً ولو على سبيل تغيير واقعنا "الواقع" غير مهتمين إن كان التغيير للأسوأ أو غير ذلك.

ويستمر الجلد الذاتي والتأنيب واللوم على ذنوب ليست ذنوباً اقترفناها، ولم يكن لنا فيها أمر وإرادة، صحيح أننا لم نولد بملعقة ذهب في أفواهنا، لكننا أيضاً لم نختر أن تولد كهلة أرواحنا، لكننا ولدنا هكذا، ومُلئنا بصراعاتٍ وإضرابات أكثر مما هو عليه حال أبناء جيلنا، لم نُخيّر أن نكون بهذا القدر من الدمار والحطام، لم نُخيّر أن تحترق كل يوم حتى غدونا رماداً، كل هذا حصل رغماً عنا، حتى إننا لم نمتلك فرصة قول "لا نريد هذا".

يسعفني قول محمود درويش: أعترفُ بأنّي تعبتُ من طول الحلم الذي يُعيدني إلى أوّله وإلى آخري دونَ أن نلتقي في أيّ صباح.
لم نعد نريد إلا نهاية وختاماً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد