الله الذي في عكار

للباحثين عن الله في المنافي البعيدة، ثمة خيام على طرف أقرب من طريق تسلكونه، يشاطرنا ساكنوه الدين واللغة والعرق ووهم العروبة نجوا إلا قليلاً، من الموت إلى حياة النزوح إلى حرمان وصقيع وعراء، يعيش الله فيهم ولا يحتاجون للبحث عنه طويلاً

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/13 الساعة 10:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/13 الساعة 10:29 بتوقيت غرينتش

للباحثين عن الله في المنافي البعيدة، ثمة خيام على طرف أقرب من طريق تسلكونه، يشاطرنا ساكنوه الدين واللغة والعرق ووهم العروبة نجوا إلا قليلاً، من الموت إلى حياة النزوح إلى حرمان وصقيع وعراء، يعيش الله فيهم ولا يحتاجون للبحث عنه طويلاً، ربما لأنهم فهموا جوهر الوجود بعدما تجردوا من أي شيء ومن كل شيء، فليس لديهم ما يزهدونه أصلاً، غدت الدنيا مجردة تفسح لأرواحهم إلهاً وسعته رحمتهم، رحمة رأوها في نهار أطل عليهم وهم على قيد البسيطة لا يزالون، اقتبسوا نوره من خيمة في صحراء ولم يفتنوا بعدل غائب منشود.

"1"

في مخيم عكار بلبنان، التقيتها، "خولة، نفسك في إيه؟".. سألتها وأنا أربت على كتفها، نفسي أخرج من المخيم لأنام على سرير، كنت أتوقع جواباً أكثر شاعرية على غرار "أن تتحرر الأرض وينتصر الوطن" مثلاً، أن أعود إلى سوريا وأرى عَلَم الثورة يرفرف على أرض أخرجونا منها ونحن ألوف حذر الموت.

لكن الجواب كان أبسط من فهمي، سرير ولا غيره من أحلام تدور في فلكها الصغير، رغم كل الأهوال التي عاشتها، وحياة اللجوء التي أعلم أنها أخذت منها ومن طفولتها ما أخذت.

سألتها: "إيه نعم ربنا عليكِ؟"، انتظرت إجابة تقليدية من طفلة بالكاد تبلغ الحادية عشرة من عمرها، لكنها تصفعني مجدداً بجوابها، أنني أشعر بالحب، وأستطيع أن أميز الفرح من الحزن لا أزال.

هكذا أجابتني، تجلت نعمة الله في قلب الصغيرة في أنها لا تزال تعرف مواطن الفرح فيها، وتميز بينها وبين جمود كانت تعرف أنه قاب قوسين أو أدنى من روحها، لكنه لم يتملك منها.

من ابتسامتها تكتمل الحكاية، أو ربما تبدأ، "جنة جنة جنة، جنة يا وطناً" تغني لوطن عاش فيها ولم تعش فيه، وترقص الدبكة ببراعة؛ لأدرك ربما أن ثمة نهاراً سيشرق من معاقل إيمان غير مسبب بإشراقه.

"2"

في خيمة مجاورة تستيقظ "حياة" كل نهار لتنادي على غائبها، ريم، لوين رحتي، فقدت "حياة اتزانها" بعدما قتل النظام زوجها وأبناءها الأربعة في مجزرة "الحولة"، أحمد، ماجد، إبراهيم، وريم، أمام أعينها.

تعيش مع قريبة لها بعدما نجت وحدها، وخرجت تهيم إلى حيث لا تعرف، فقدت النطق يوم المجزرة ولم تسعفها الكلمات طيلة أربعة أعوام على التعبير، إلا عن قصة لخصتها في ثلاثة أحرف بنداء لا ينقطع "الراء والياء والميم".

"3"

"أم زينب"، هذه كنيتها، 4 أعوام لم ترَ ابنة تسمع اسمها كل نهار حين ينادونها، لم تكن لتعرف أن خروج ابنتها في زيارة لجدها سيتزامن مع قصف النظام منزلها، تهدم البناء ونزحت الأم وأبناؤها الخمسة، وبقيت سادسة تحاول الوصول إليهم بلا جدوى.

صحيح أنها بقيت بمأمن عن خطر بيت سقط فوق رؤوس أصحابه، لكن المفارقة الأكبر في أختين، أصغرهما لم تعرف شيئاً عن سوريا، إلا أنها اسم دولة كانت تنتمي إليها، ولكنها لم ترَها، وأكبرهما لم تعرف بعد حياة النزوح، فكيف يتسنى لها أن تعيش معهم حتى إذا استطاعت الخروج من سوريا بعد بلوغ السن القانونية، لم تتبع خطوات مَن سبقوها من إخوتها حين خرجوا من "قارة " إلى "عرسال"، ولم تفترش أرض مسجد وسط المدينة لشهر أو يزيد مثلهم، ولم تطرد من المسجد بعدها إلى خيمة احترقت بما تبقى فيها من أمتعة لا تسد رمقهم وطعام لا يسمن ولا يغني من جوع.

تحكي الأم وتدمع عينيها: "ربما صارت أطول مني، ربما تغيرت ملامح وجهها، أو احتفظت بتقاسيم وجهها الصغيرة، أتمنى أن أضمها إليَّ، لكني أخاف عليها حياة الخيام التي ستبدأ بالتعرف عليها من جديد حال ما أتيت إلى هنا".

هنا تدرك معنى أن تكره رؤية حبيب تشتاق إليه، ولا تعرف إن كان صح عليك قول "يا رب قرب البعيد" أم "اللهم باعد أسفار البعيد بعداً"، إذ نار الفراق لا تكسر برد خيمة تنتظر "زينب" في عكار.

"4"

لا تخرج "بسمة" من خيمتها إلا لحاجة تقضيها، يقولون إنها تحمل من وزر المحنة ما لم تقترف، اعتقلتها قوات الأسد ذات ليلة وأبقوا عليها في أحد مقرات الاحتجاز، طالت الأيام بها وامتدت لشهور، وخرجت برضيع ما أفقدها أحدهم رونق الحياة فيها، لا تتحدث مع أحد منذ وصلت المخيم من عامين ويكبر أمامها صغير بريء، يذكرها كل ليلة بليلة سرمدية تلك التي "اغتصبت فيها" في سجون الأسد.

أروح بخيالي 5 ثوانٍ.. 5 ثوانٍ لا أكثر.. لأحاول التخيل.. غرفة مظلمة مثلاً ورجل ببدلة عسكرية ينتظر في غرفته.. وشابة لم تبلغ عمرها الرابعة والعشرين حينها على طرف الغرفة، يفتح السجان غرفتها ويقتادها، تقاوم فيجذبها من ذراعها على الأرض إلى وحل ينتظر فيه قائده، أصوات ناي في الخلفية على غرار الأفلام العربية القديمة وموسيقى أغنية "العرس".. وضرب الطبول "وإن يسألوكم مين أبوه قولوا ده خدها غصب".
5 ثوانٍ وأفقت من كابوس لم يتسع له عقلي.. ولا أعرف كيف عاشته هي وكيف مرت عليها شهور الحمل لتنتظر صغيراً غير مذنب لا تعرف هي الأخرى حقيقة شعورها نحوه.

في كل عين هنا حكاية.. وكل حكاية تشيب لها الولدان شيباً، لكنهم لم يخرجوا أميالًا بعيدة ليبحثوا عن ذات الله وهم أحق من غيرهم بالبحث، وجدوا الله في مُصابهم وفقدهم وانكسارهم وعلى أعتاب أحلامهم المفقودة.

في كل رحلة ستعرف ما كان ينبغي ألا تعرف، ستدرك يقيناً أن الحكاية الحزينة التي حدثت في مجاهل الحرب لم تكتمل فصولها بعد، وأن دورك فيها يتعاظم عظم انجرافك لبحثك عن موجود، سيفقدك ربما حقيقة البحث عن غيره أجدر بالسؤال والإجابة، وأنه سوى الرومِ خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيك تميل!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد