حياة جديدة.. أستراليا 4

مدت يدها تحتضن فنجان القهوة الساخن، محاوِلة شحذ بعض الدفء منه وكأنها قد قرأت أفكاري... فقالت: حتى أهم العظماء لم تشغلهم حياتهم عن الشغف والحب؛ قسطنطين تسيولكوفسكي وعلى الرغم من إصابته بالصمم، وانشغاله الدائم بالنظريات والاكتشافات، والذي وضع أول نظرية في الرحلات إلى الكواكب الأخرى، وصاحب نظرية الصواريخ النفاثة، كما اختراع المنطاد، والآلة الكاتبة، والسخان الشمسي، حتى إنه زعم أنه يتحدث إلى الملائكة... ومع كل هذه النجاحات، وقع في الحب،

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/12 الساعة 04:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/12 الساعة 04:55 بتوقيت غرينتش

حب وأشلاء أخرى
كان يظهر في عينيها ذلك البريق الغريب، وخصوصاً حين تقول "بحبك". وطبعاً فضولي الأنثوي دفعني كي أبدأ بالحديث معها، فهي ما زالت تحت التأثير العشقي، وحتماً ستخبرني عنه الكثير.

بدأت تسرد كفتاة وقفت أمام المرآة لتعترف للمرة الأولى:
العشق الحقيقي هو الهيام بهذا المعشوق، والإعلان الواضح له بالحب، "أنا بحبك"؛ بل هو أعمق وأجمل.
فهو يقبلك كما أنت، يهتم بك ويقلق عليك، يشجعك على الثقة بنفسك، ويدفع بك لتعطي الأفضل، فهو حليم في تعامله معك.

الحب الحقيقي هو الذهاب إلى حد التطرف، عبادة وتصوف، فهو قد خُلِق لنضحي من أجله لا لنضحي به، وإلا كان حبّاً عادياً يمكن نسيانه واستبداله بسهولة، فلا يوجد مكان ثالث بين الجنة والنار.

أما عن خبراتنا التي اكتسبناها في العشق، فأغلبها تعتمد على قصص الأساطير، وهي محاولات وخبرات لأشخاص عاشوها قبلنا، وكل ما ينقصنا الآن أن نتذوق بأنفسنا هذا العشق.

لكن، من هنا تحديداً، تبدأ الدراما ليبدأ بعدها الصراع، فمشاعر الحب تحتاج دائماً إلى إثبات، مهما اختلف تصنيفك لهذا الحب، فنحن نحتاج إلى إثبات وبرهان بالقول والفعل. لا يمكن أن نكتفي بالقول دون فعل، فلن نصدق، ولا نكتفي بالفعل دون قول، فنحن نحتاج إلى أن نسمع كلمات الحب وأن تملأ آذاننا. فتمتلئ قلوبنا بالحب قبل أن نشيخ وحيدين متهالكين.

ثمّ تابعت حديثها وكأنها تفتح سراديب الماضي:
أحياناً، يكون الحب علاقة متمردة ثائرة فيصعب السيطرة عليها أو فهمها، فيضع ضحاياه في متاهات، من الصعب الخروج منها بسلام.. وخصوصاً إذا ما جمعت اثنين في علاقة حب لا يقصدان منها الغاية نفسها، فيصبحان كقطارين متعاكسين في الاتجاه.. وفي لحظة ما، سيتحرك هذان القطاران، وكل ما سيتبقى بضع دقائق ستبقى عالقة في الذاكرة.. صراع ومقاومة في محاولة تحقيق أمر هو في خانة المستحيل.. يحدث ذلك أحياناً حين تجذبنا وهج البدايات ونستمتع بالمذاقات الأولى للأشياء.

ولكن سرعان ما يتبدد ذلك الوهج، فبعض الناس لديهم قدرة فائقة في السير على قلوب الآخرين دون أي إحساس بالذنب. لكن علينا أن نتذكر أن ما قد يبدو لنا خسارة أحياناً، قد يكون هو نفسه الشيء المسؤول عن أفضل إنجازاتنا القادمة.

مدت يدها تحتضن فنجان القهوة الساخن، محاوِلة شحذ بعض الدفء منه وكأنها قد قرأت أفكاري… فقالت:
حتى أهم العظماء لم تشغلهم حياتهم عن الشغف والحب؛ قسطنطين تسيولكوفسكي وعلى الرغم من إصابته بالصمم، وانشغاله الدائم بالنظريات والاكتشافات، والذي وضع أول نظرية في الرحلات إلى الكواكب الأخرى، وصاحب نظرية الصواريخ النفاثة، كما اختراع المنطاد، والآلة الكاتبة، والسخان الشمسي، حتى إنه زعم أنه يتحدث إلى الملائكة…

ومع كل هذه النجاحات، وقع في الحب، ولم يتردد لحظة في أن يكتب رسالة للفتاة التي أحبها يعلن فيها عن حبه. والعالم جون ناش عبقري الرياضيات، لم يمنعه مرضه من التمسك بقلب أحبه ليكمل معه مسيرته في النجاح والتفوق.

ثمّ أصدرت زفرة ألم من صدرها تحاول أن تتمالك البوح أكثر عن مدى اعتزازها بحبها وقالت:
حاولت كمحارب شجاع الابتعاد عنه، إلا أنني أدركت في اللحظة الأخيرة أنني هُزمت أمام الحب، وكل انتصاراتي السابقة كانت شراكاً نصبتها لنفسي.

رحلة إلى هناك
قالوا: "في الحروب، ليس الذين يموتون هم التعساء دائماً، إنّ الأتعس هم أولئك الذين يتركونهم خلفهم ثكالى، يتامى، ومعطوبي أحلام".

مع أنّ اليوم هو الأحد، وكما هو معروف فهو عطلة في أديليد، إلا أن ساعتي البيولوجية أصرّت على أن توقظني باكراً. على الأغلب، هو شعوري الموجع بالحنين الذي أيقظني.. حنين إلى فترات مضت.. لا ضيق من المكان أو من حياتي الجديدة، ولكن ذكريات أستعيدها وهي محببة إليَّ، أشعر بغصة عند تذكرها، يخبرني كثيرون بأنهم مثلي، فأرتاح قليلاً بأني لست وحدي، لكن ما المُفرح في أن تعرف عن وجود آخرين يتعذبون بحنينهم إلى ماضيهم عوضاً عن أن يتمتعوا بحاضرهم.

كنت قد جلبت معي بعض الكتب لأتسلى بها، فقررت تناول واحد منها لا على التعيين، ربما هو القَدَر من أسقط يدي عليه، أو قد يكون عقلي الباطني المتآمر كما العادة ضدي… حيث جعل اختياره لكتابٍ شعريٍّ.

وعلى الرغم من استمتاعي به إلى درجة أني وجدت أنّ عدوى كتابة الشعر قد أصابتني، فإن ضميري ما لبث أن أنبني قائلاً: "مافي حداً بيقرا شعر بهالأيام". واشتدّ الصراع ووجدت نفسي أجادله، وحاولت عبثاً إقناع السيد ضمير، بأنني الآن في بلاد الغربة، فارحمني قليلاً وأبعدني أرجوك عن طعم القسوة.

حاولت أن أشرح له أنّه من رحم القسوة يولد الحنان، لكنه لم يقتنع ولم يتركني في شأني حتى التقطت رواية "بجعات الموت". ومع أني أصبحت بحالة إحباط من عمري، ومن الكاتب، الذي حوّل الدنيا كلها لسوداء من كثرة القتل والتفجير.

وحاولت بشتى الوسائل أن أفلت منه ومن ضميري المتآمر باتجاه كتاب أحبه، اسمه "أساطير الحب والجمال"، لكن دون جدوى، فضميري الآن مرتاح تماماً؛ فقد نجح في إرجاعي إلى حالة البؤس السورية، فالكتاب مملوء بجميع الكلمات التي آلفها وأصبحت جزءاً مني؛ "تآمر.. ضرب.. قتل .. وتفجير.. وبجعات الموت"، لكني استغربت قليلاً: من أين أتتني كلمة "الضمير"، فهذه الكلمة قد أصبحت خارج سرب الحالة السورية؟!

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد