دفاعاً عن العيون المصرية الملونة

كثير من حضور ذلك اللقاء في المركز الثقافي الفرنسي استغرب الأمر، بينهم فتاة مصرية جلست خلفي بالضبط، صدر عنها كلمة واحدة "أيوا" بطريقة استنكارية استهجانية، قلت في نفسي: "ها قد خسر صنع الله إبراهيم قارئة مصرية لأجل أن يربح قراء من الإنكليز أو الأميركان، أيا ليته لم يذكر هذه القصة".

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/12 الساعة 01:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/12 الساعة 01:17 بتوقيت غرينتش

في لقاء جرى في المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة قبل وقت ليس بالقصير، وجمع كلاً من الروائي صنع الله إبراهيم ومترجمه الفرنسي، تحدث فيه الأستاذ إبراهيم عن قصته مع الكتابة والترجمة، وقدم المترجم الفرنسي مداخلة قص فيها تجربته في ترجمة صنع الله إبراهيم إلى الفرنسية وعلاقته بالروائي الشهير.

ما لفت انتباهي في ذلك اللقاء قصة رواها الأستاذ صنع الله عن مترجم أميركي ترجم إحدى رواياته إلى الإنكليزية، فقد أخبره المترجم أنه يفضل تبديل لون عيون إحدى الشخصيات في الرواية من الأزرق إلى الأسود؛ كي ينسجم مع رؤية القارئ الأميركي للمصريين.

كان لافتاً للانتباه درجة الصدمة طلب المترجم الأميركي، بلا شك، فإن رؤيته لهذه المسألة، أي لون العيون، تنطلق من رؤية الغرب للشرق ولمصر، وهي باعتقادي رؤية استشراقية مصمتة ترى الأمور من خلال منطق أرسطي يقول إن الشرق "أسمر بعيون سود"، والغرب أبيض بعيون زرق، ومن الأدب والمنطق أن تبقى نظرتنا عنهما على هذه الشاكلة كي لا نجرح المشاعر الاستشراقية للقارئ الغربي، لكن المفاجئ أكثر كان موقف الروائي الأستاذ صنع الله إبراهيم الذي وافق على طلب المترجم الأميركي، كثير من حضور ذلك اللقاء في المركز الثقافي الفرنسي استغرب الأمر، بينهم فتاة مصرية جلست خلفي بالضبط، صدر عنها كلمة واحدة "أيوا" بطريقة استنكارية استهجانية، قلت في نفسي: "ها قد خسر صنع الله إبراهيم قارئة مصرية لأجل أن يربح قراء من الإنكليز أو الأميركان، أيا ليته لم يذكر هذه القصة".

انتهى اللقاء في المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة، التفت إلى الخلف أريد التعرف على هذه الفتاة المستنكرة لتبديل لون العيون، فوجدت عينيها خضراوين.

لا شك أن المترجم الأميركي لا يعرف الشعب المصري إلا من خلال أفلام الأبيض والأسود التي لا تتيح له رؤية الألوان الحقيقية للعيون، عيون حسين فهمي مثلاً أو عيون ممثلات مصريات كثيرات، ولا شك أن المترجم ومعه جمهور واسع في الغرب يرى في مصر مملكة إفريقية يكثر فيها الخدم السمر والنساء السمراوات كما يظهرن في لوحات المستشرقين، الذين يظهرون الملامح العامة للشرق ومصر الشرق الساحر القادم من ألف ليلة وليلة، والمشترك بسمات صارمة مسطرة بالمسطرة، الشرق الذي هو عكس الغرب بالضبط، الأسمر مقابل الأبيض، المتخلف مقابل المتقدم، الكسول مقابل النشيط، العبد مقابل الحر، الرخيص مقابل المكلف، الزراعي الخدمي مقابل الصناعي المنتج.. بحيث بنوا خلال قرون رؤية نمطية عن الشرق ومصر متوافقة مع مزاج رفاهي يلبي النزعات والرغبات الغربية، ليست إحدى سماتها معرفة الحقيقة بقدر ما يهمها استمرار تغذية الفكرة التقليدية عن الشرق ومصر، الفكرة السحرية إياها.

لكن الروائي صنع الله إبراهيم يعرف مصر حقاً خلاف المترجم الأميركي، مصر القاهرة بالضبط التي تحولت خلال ثلاثة أو أربعة قرون إلى مزيج من أعراق وثقافات ولغات، يقطنها التركي والألباني والفرنسي والإنكليزي واليوناني والطلياني، ولا بد أن هؤلاء باستمرار وجودهم في القاهرة طوال قرون قد تزوجوا من مصريين ومصريات، فحصل تبدل في لون العيون ولون البشرة، وهو ما يمكن ملاحظته في القاهرة اليوم على الأقل بالنسبة لي كقاطن في القاهرة من غير أهلها الأصليين.

لكن لماذا رضي الأستاذ صنع الله بهذا التغيير الذي اقترحه المترجم الأميركي؟ قد يعود لتقديره الشخصي من كون الأمر لا يتعدى تفصيلاً صغيراً لا يؤثر على أي من عناصر الكتاب أو بنية العمل، ربما كان الأمر على هذا النحو، لكن قناعتنا أنه أمر مخالف لواقعية العمل الأدبي ومحاولة من المترجم لتغليب العام على الاستثناء، تغليب الرؤية الاستشراقية إياها على الواقع.

إن خطورة موقف المترجم الإضافية ليست فيما سبق فحسب من محاولة تثبيت الصورة النمطية عن الشرق وعدم استعداده للمغامرة في تقديم صورة أخرى لقرائه الأميركان، لكن الخطورة الحقيقية هي في أن المترجم إياه ينسى أن ربع مواطنيه الأميركان على الأقل من أصول غير أوروبية، قادمين من إفريقيا وشرق آسيا، وأن عيونهم ليست ملونة، بهذا فالمترجم يغمض عينيه عن الشرق وأميركا معاً، في سبيل بيع ترجمته، أو في سبيل إرضاء فكرة نمطية لديه لا يريد التنازل عنها أو زعزعتها.

لو تبنينا موقف المترجم إياه لرفضنا -نحن الشرقيين- حقيقة وجود أميركان سمر بعيون سوداء، ولأبقينا على صورة الغرب الأبيض الأشقر التي تصدرها دوائر ثقافية سياسية هناك على أنها الحقيقة العليا التي لا يجوز لأي واقع أن يبدلها كي لا ينزع مزاجنا الشرقي، الذي تريد تلك الدوائر تنميطه بحسب أهوائها ومشروعها الكبير للعالم المنفصم المتصارع.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد