الكثير من الناس على اختلاف طباعهم يحبون أن يصبحوا وجهاء، فحب السلطة مزروع في النفوس؛ لأنه مترافق مع مشاهد الهيبة والإجلال التي نشاهدها منذ الصغر على شاشات التلفزة، فإحساس أن يأمر الإنسان وينهى ويجد ممن حوله التنفيذ المباشر دون تردد مريح إلى أبعد حد، ويشعر المرء أنه قد اعتلى عرش القلوب والعقول، ونال أعلى درجات تقدير الذات، وبالتالي يكون قد نال من الخير الحظ الأوفر، ولم يغادر الدنيا كنسخة مكررة لا يفتأ أن ينساها الناس بعد مدة.
كل ذلك موجود بكثرة فيمن حولنا، وبتنا نسمع قصصاً كثيرة عن قوة تسلط الأب أو الأم أو الجد أو الجدة، وقد تكبر الدائرة وتصبح في أهل الزوج أو الزوجة، وخصوصاً مع ازدياد عمر الإنسان وقلة علمه، فهو يريد لصوته أن يسمع، ولكلامه أن ينفذ، ولقراراته أن تجري كالماء في نفوس من يحيطون به دون بذل الكثير من المجهود في الإقناع، سواء كانوا أبناء أم أحفاداً على حد سواء، والذي يمتاز منهم بسرعة التنفيذ دون تردد ينال مرتبة الخلة التي لا ينالها إلا المقربون.
ما يميز تلك الشخصيات عن غيرها أنها تنطلق من الدين في إقناع من حولها بصحة طريقتها ومنهجها في الحياة مرات كثيرة، مع أن الحوار والاختلاف أصل في ديننا، ولم يخلق الله الناس ليكونوا نسخاً عن أحد، ولا أن يمنعوا من ممارسة حقهم في الحوار والاختلاف والتعارف بدافع البر، وإلا لكان في القرآن تضاد في أوامره معاذ الله، فالأمر بالبر دائماً يكون من الأبناء إلى الآباء، وليس العكس فأن آمُر ولدي ببرّي بطرق فرعونية كالإجبار والحرمان والتهديد، فلن يتربى ذلك الولد إلا على الخوف مني، وليس على الخوف من الله، فالأصل في قضية بر الوالدين أن يتذكر الولد فضل والديه وصبرهما وإحسانهما إليه، فيخاف الله في أن يعقهما أو يتنكر لهما بعد أن يكبرا، وتكون المحبة والذكريات الرائعة التي زرعت في مخيلته سنوات طويلة منذ أن كان طفلاً وإلى أن أصبح راشداً هي الدافع دائماً لصلتهما والإحسان إليهما، وليس الخوف منهما ومن كلامهما ومن تسلطهما.
من اللافت أن تلك النفوس التي تربت على الخوف والقمع لم تنتج لنا نماذج البر التي كان عليها الصحابة رضوان الله عليهم، فالرجل الذي ظل واقفاً طوال الليل ينتظر والده ليصحو فيسقيه الماء كي لا يزعجه من منامه لم يكن ليفعل ذلك خوفاً من والده أن يصحو فلا يجده واقفاً فيضربه أو ينهال عليه بسيل من الشتائم والغضب، بل كان يفعل ذلك بدافع داخلي بعظم أجره أولاً وبمحبته ورحمته بوالده ثانياً، والرجل الذي حج حاملاً والده على ظهره لم يكن ليفعل ذلك بدافع الخوف من سخط والده عليه لو لم يختر هذه الطريقة بالذات ليقوم والده بتأدية مناسك الحج على ظهره، بل كان بدافع ابتغاء ما عند الله في الإحسان لمن حمله ورباه عندما كان صغيراً، والأمثلة تطول فيما يستشهد به الآباء لأبنائهم دائماً في كلامهم عن البر والإحسان المأمول من أبنائهم، مع أن الطريق كان مختصراً منذ البداية في أن يتربى الداخل والخوف من الله في كل شيء أولاً، بدلاً من أن يربى ما يخرج من تصرفات الأبناء، وأن يزداد عدد المقموعين في عالمنا والشاربين من أفيون الدين المغلوط.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.