نقد الحداثة بعيون علم اجتماع المخاطر

رغم التساؤلات الكثيرة التي قد نطرحها هنا، فإننا على قناعة جميعنا بأن نقد الحداثة جاء كرد فعل على تلك الممارسات الخاطئة والمغامِرة للإنسان الحداثي والمبنية على فلسفة "المخاطرة"، ما أفضى إلى نتائج "خطيرة" متجسدة في شتى "الأخطار" المحلية والعالمية، جعلت سمة عصرنا اليوم: الخطر المحتوم والأمان المفقود!

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/05 الساعة 01:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/05 الساعة 01:17 بتوقيت غرينتش

لماذا نقد الحداثة؟
هكذا أبدأ مقالي بسؤال، الإجابة عنه ستوضح بجلاء أهمية وجود ما يسمى علم اجتماع المخاطر؛ ليعكف على فهم وتفسير هذا العالم المأزوم، عالمنا اليوم!

فلماذا إذاً نقد الحداثة؟ ولماذا الحديث عن "ما بعد الحداثة"؟!، ولماذا يصر البعض على إقناع الآخرين بأنهم يعيشون اليوم عصر المابعديات؟ وهل "ما بعد" تعني الاستمرارية مع المراجعة، أم القطيعة مع التراجع، أم تعني الندية والضدية والعداوة الفكرية؟!

فرغم التساؤلات الكثيرة التي قد نطرحها هنا، فإننا على قناعة جميعنا بأن نقد الحداثة جاء كرد فعل على تلك الممارسات الخاطئة والمغامِرة للإنسان الحداثي والمبنية على فلسفة "المخاطرة"، ما أفضى إلى نتائج "خطيرة" متجسدة في شتى "الأخطار" المحلية والعالمية، جعلت سمة عصرنا اليوم: الخطر المحتوم والأمان المفقود!

إذ وقف الكثير من النقاد السياسيين والمفكرين ومنظِّري ما بعد الحداثة، أمثال يورغن هابرماس ونعوم تشومسكي وسيغموند بومان وأولريش بيك وأنتوني جيدنز ونيكلاس لومان وألان توران وغيرهم، وقفة المتأمل في حال عالمنا اليوم الذي بات مأزوماً ومتصدعاً على المستويين معاً؛ النظرية والواقع، فنقاد الحداثة الغربية في مجملهم قد أجمعوا على أن عصر الحداثة، بكل آلياته الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، قد انتهى بالعالم إلى: وهدة الخطر!

فحينما كتب عالِم الاجتماع البولندي سيغموند بومان عن "الحداثة السائلة"، ناقداً تلك الحالة من السيلان الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي التي وصل إليها عصرنا اليوم بفعل الحداثة المتأزمة والتي جعلت كل شيء حولنا سائلاً، نجد من ناحيةٍ محاذيةٍ الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس في نقده للحداثة قد أعلن أن مشروع الحداثة ذاك ما زال لم يكتمل بعد! ليتفطن العالَم إلى صيحة عالِم الاجتماع الألماني أولريش بيك وهو يزجر باحثاً عن الأمان المفقود، من خلال كتابه "مجتمع المخاطرة العالمي: بحثاً عن الأمان المفقود".

فنقد الحداثة إذاً ترتب على تلك المخاطر "Risks" والأخطار "Dangers" التي أوقعنا في شِراكها ذلك العقل الحداثي. بيد أننا أيضاً عاكفون من الجهة المقابلة على محاولة فهم وتفسير الواقع المتغير الجديد، فنقاد الحداثة في وطننا العربي الإسلامي قد عكفوا هم أيضاً على محاولة فهم تلك التغيرات الناجمة عن عصر الحداثة والبحث عن مداخل ومفاهيم جديدة لتفسير الواقع الجديد؛ أمثال المفكرة المصرية وأستاذة العلوم السياسية هبة رؤوف عزت التي كتبت "نحو عمران جديد"، من خلال نقدها للحداثة الغربية ودعوتها إلى تحليل الواقع الجديد بمفاهيم إسلامية تعبر عن السياق الزمكاني للظاهرة المجتمعية.

في حين نجد المفكر الفلسطيني والباحث في تاريخ الفكر الإسلامي وائل حلاق يكتب عن "الدولة المستحيلة"، ناقداً الحداثة الغربية التي وقفت عثرة في طريق تحقيق الحكم الإسلامي، كما نجد أيضاً المفكر الجزائري وأستاذ علم الاجتماع نور الدين زمام، من خلال ما كتب عن "القوى السياسية والتنمية"، يطرح مدخلاً أو مقاربة لفهم وتفسير الواقع الحداثي-السياسي من خلال مفهوم النخبة.. وغيرهم من المفكرين العرب والمسلمين الذين عكفوا على نقد الحداثة الغربية وطرح مقاربات محلية لفَهْم وتفسير الواقع العربي الإسلامي اليوم.

خاصة أننا اليوم، بعد الربيع العربي المزعوم كنقطة انعطاف رسمت خارطة طريق جديدة بتنا نشهد ملامحها من قرب ومن داخل النسق العام، فإنني من وجهة النظر السوسيولوجيّة أجد أن الأزمة التي تحدثنا عنها مراراً وتكراراً والتي مست النظرية السوسيولوجيّة الحديثة منذ الخمسين سنة الماضية قد لحقتها اليوم أزمة فعلية على مستوى "التجمع الإنساني" في حد ذاته! وهو موضوعنا البارز في علم الاجتماع.

فحينما يتجه العالَم نحو رسم خارطة جيو-سياسية جديدة، فإن ذلك سيتبعه حتماً (حسب ما أراه اليوم كتغير اجتماعي جديد سيستلزم مع الوقت الدراسة والتفسير) رسم آخر، ليس على المستوى الجيوسياسي فحسب، وإنما على المستوى الاجتماعي كذلك، أو دعوني أقلها بلفظة ابن خلدون؛ أي (على مستوى العمران البشري والتجمع الإنساني)، فاليوم نشهد أزمة تجمع إنساني، كما نشهد ملامح عمران بشري جديد لعب فيه اللجوء السياسي غير المسبوق كمّاً ونوعاً على خلفية الربيع العربي وتدفق أعداد كبيرة جداً من المهاجرين، خاصة المشارقة، من مناطق تجمعهم الأصلية نحو مناطق جديدة (أوروبا، إفريقيا، أميركا..) دوراً في بداية تكوين تجمعات إنسانية صغيرة بمعايير جديدة مختلفة، ستلعب فيها الهوية الزمكانية دوراً بالغ الأهمية في تشكلها.

فقضية اللاجئين المسلمين اليوم تعد خطراً (danger) يفتك بالمهاجرين أنفسهم في نسق هوياتهم وثقافاتهم ومعتقداتهم وعلاقاتهم وتجمعاتهم الاجتماعية بأنماطها المعيشية ذات الخصوصية، فهو من أبرز الأخطار الاجتماعية-الثقافية التي تجسدت بفعل: فلسفة المخاطرة الحداثية.

فالمخاطرة (risk) كسلوك انتهجه الرجل الأبيض بحثاً عن اللذة والمنفعة القصوى وتحقيق الربح السريع على حساب الأجيال المقبلة وعلى حساب الأمن والسلام العالمي الحاضر، قد أرغمنا على القعود جنباً بجنب، اليوم؛ لنحصي مخلفات تلك المخاطرة والمتمثّلة في بعبع الأخطار (dangers) التي أحاطت بالجنوب والشمال، فقرائه وأغنيائه على حد سواء (الكوارث البيئية لا سيما ثقب الأوزون، تناقص الثروة الباطنية، الإرهاب الدولي، الحروب الأهلية، الجوع والفقر، الأوبئة والفيروسات الفتاكة، الأسلحة الكيماوية، التجارب النووية، تصاعد النعرة القومية والتمييز العرقي، صناعة التطرّف الديني، التمزق الهوياتي… إلخ).

فعلاً، عالمنا اليوم بسبب تلك الفلسفة العقلانية للحداثة قد بات مهدَّداً باستمرار ومحاطاً بجمة من الحالات أصفها بـ: التشرد الجسداني، الضياع الهوياتي، التوحش السياسي، البؤس الاقتصادي… إلخ، وكل تلك أخطار نجمت عن حالة الحداثة التي ننتمي إليها كلنا ولكن بدرجات متفاوتة. حتى إن العقل الإسلامي بات عقلاً حداثياً، فالحداثة حالها كالجراد الذي لا يبقي ولا يذر!

وكنت قد طرحت، في مقال سابق، رؤية في نقد الحداثة، بيد أنني لم أنقد الحداثة ذاتها بقدر ما نقدت العقل الإسلامي الحداثي، وذلك بالدعوة إلى ما سميته "تنضيد العقل الإسلامي الحداثي"، فالعقل الإسلامي قد تبعثرت جزيئاته بفعل احتكاكه بالعقل الحداثي الغربي، فأصبح هو الآخر عقلاً إسلامياً حداثياً! ونحن مسؤولون بالدرجة الأولى عن تشرذم العقل الإسلامي الذي هو خاصتنا، كما نحن أيضاً نتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن المخاطر والأخطار التي وقعنا فيها، لا سيما على المستوى الهوياتي-السيادي.

فلذلك أنا لا أقول ولا أجزم بأن الحداثة هي المسبب الوحيد أو المسبب الأول والرئيس في ذلك، وإنما هي في شمولها لعبت دوراً كبيراً في إغراق العالم في فرسخ من المشاكل والإخفاقات لا حصر لها، إلا أن الذات أيضاً مسؤولة عما آل إليه العالم اليوم "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" (الروم: 41).

وعليه أقول: إن الذات الإسلامية هي أيضاً تتحمل اليوم نصيباً من المسؤولية إزاء إخفاقات هذا العالم المأزوم محلياً وعالمياً معاً، فكلنا داخل هذا النسق الحداثي شركاء في: صناعة الخطر.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد