مَن قتل الغول؟

أيها الناس.. إني أزف إليكم خبر مقتل الغول، ولكي أزيدكم أماناً واطمئناناً فقد كان مقتله على يدي، لا تخافوه بعد اليوم، ولا تخيفوا به أولادكم؛ لكي يناموا أو يطيعوكم في أمر ما

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/02 الساعة 01:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/02 الساعة 01:41 بتوقيت غرينتش

ما زالت ظاهرة الشعراء الصعاليك تسترعي الانتباه، فأميرهم عروة بن الورد أعطى المثال عن أشياء ذات دلالة: لم يكن يسلب الأغنياء -المواطنين بلغة العصر- أي الذين كانوا يساعدون الفقراء، وكان أيضاً يجمع المشردين والمتخلى عنهم، وخصوصاً أيام القحط؛ ليكون لهم عوناً ومعيلاً. سنفرد الحديث اليوم عن شخصية أخرى من الأدب الجاهلي: تأبَّط شرّا.

لم أكن في حاجة إلى أدوات المحققين، ولم ألجأ لشهود عيان، ولم أقتبس شيئاً من الصحفي بيير بيلمار، فيما يخص الجرائم المعقدة، لقد تقدم الجاني بنفسه، واعترف بما لم ننسبه إليه.

تأبط شرا: هو ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي، من الشعراء الصعاليك الذي قيل عنه:
كان من أعدى العرب، وأشدهم قوة وبأساً، ولو أنه كان ضئيل الجسم، سُئل ذات يوم عمَّا يخيف أعداءه فقال: اسمي.. تأبط شرّا.

اعترف بأنه قتل الغول، والأكثر من ذلك أنه وصف تفاصيل الحدث ومسرح الجريمة بنفسه: المكان – الزمان – السبب.. فقال في شعر لا يعوزه البيان والتصوير الجميل:

ألاَ مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيَانَ فَهْمٍ ** بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحَى بِطَانِ
بِأَنِّي قَدْ لَقِيتُ الغول تَهْوِي ** بِشُهْبٍ كَالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ
فَقُلْتُ لَهَا: كِلاَنا نِضْوُ أَيْنٍ ** أَخُو سَفَرٍ فَخَلِّي لِي مَكَانِي
فَشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوِي فَأَهْوَى ** لَهَا كَفِّي بِمَصْقُولٍ يَمَانِي
فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ ** صَرِيعاً لِلْيَدَيْن وَلِلْجِرَانِ
فَقَالَتْ عُدْ فَقُلْتُ لَهَا رُوَيْداً ** مَكَانَكِ إنَّنِي ثَبْتُ الْجَنَانِ
فَلَمْ أَنْفَكَّ مُتَّكِئاً عَلَيْهَا ** لأنْظُرَ مُصْبِحاً مَاذَا أَتَانِي
إِذَا عَيْنَانِ فِي رَأْسٍ قَبِيحٍ ** كَرَأْسِ الْهِرِّ مَشْقُوقِ اللِّسَانِ
وَسَاقَا مُخْدَجٍ وَشَوَاةُ كَلْبٍ ** وَثَوْبٌ مِنْ عَبَاءٍ أو شِنَانِ

هكذا كانت الحكاية، التقى تأبط شرا الغول صباحاً، وأرادت استمالته بصوت ناعم لتقضي عليه، لكنها أخطأت العنوان. انقض عليها بلا رحمة وقتلها، ووصف لنا شكلها القبيح (خليط من الحيوانات وصوف ليبعث الرعب في مستمعيه).

إن الشاعر هنا -دون شك- يبعث برسالة إلى المجتمع الذي يعيش فيه، مفادها أن الغول الذي يخيفكم ويعشش في أذهانكم قد مات، هكذا بأسلوب تهكمي وحساسية اجتماعية تستند إلى موقف الشعراء الصعاليك المتمردين على قواعد المجتمع القبلي.

أيها الناس.. إني أزف إليكم خبر مقتل الغول، ولكي أزيدكم أماناً واطمئناناً فقد كان مقتله على يدي، لا تخافوه بعد اليوم، ولا تخيفوا به أولادكم؛ لكي يناموا أو يطيعوكم في أمر ما.

أظن أن وسائل الإعلام العالمية والوطنية وحتى المحلية قد خذلتنا مرة أخرى، ولم تزف لنا نحن أيضاً هذا الخبر، إننا ما زلنا نخاف الغول ونخيف أولادنا به ومنه.

فرنسيس بيكون (1561 – 1626)

يؤكد -هو الآخر- ضرورة تحطيم أوهام العقل، ويقسم الأوهام إلى أربعة:

أوهام القبيلة – أوهام الكهف – أوهام السوق – أوهام المسرح.

يشبه بيكون العقل بالمرآة (تنظف لتعكس الصورة الواضحة)، والعقل يجب أن يحطم الأوهام: المرتبطة بالجنس البشري عموماً، والكهف الشخصي الذي يقبع فيه كل واحد منا، وضبط اللغة والتواصل بدل مصادرة الآراء والتدجيل، والتحرر من سطوة الماضي..ماذا أنجزنا نحن؟

وتستمر الحكاية، ويبقى الغول أو شبحه راسخاً في ثقافتنا، نمرره بصدق إلى الأجيال اللاحقة، ونبقى سجناء أوهامنا الجميلة.

المستحيلات ثلاثة، كما عرفها العرب قديماً: الغول، والعنقاء، والخل الوفي. المستحيل الأول والثاني مفروغ منهما، أما الخل الوفي ففي المسألة نظر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد