عن قصة الفقر في سوريا “الأماكن كلّها محتاجة لك”

يا صديقي.. ليس أمراً طبيعياً أن يلبس نصف شعب في دولة ما من الألبسة المستعملة، ذلك كان قبل الثورة أما اليوم فمن يشتريها في سوريا تصل نسبتهم إلى التسعين في المائة من عموم الشعب السوري

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/01 الساعة 03:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/01 الساعة 03:05 بتوقيت غرينتش

ما كان يميز المواطن السوري قبل الثورة عن غيره من مواطني دول الجوار هو إقباله على شراء الألبسة المستعملة التي تسمى بـ"البالة"، وهذه الكلمة مشتقة في أصلها العربي الفصيح "بالية"، الكلمة التي تصف الألبسة المهترئة.

نعم قد يكون شراء الألبسة المستعملة أمراً شائعاً في جميع الدول وحتى في أوروبا، لكنها في سوريا مختلفة بعدة أمور، أولها:
أنها في البلدان الأخرى يشتريها ويلبسها ما نسبته أقل من خمسة بالمائة من عموم الشعب، بينما في سوريا فإن من يشتريها أكثر من خمسين بالمائة من الشعب السوري، وهذه الزيادة لاحظتها في الخمس سنوات الأخيرة التي سبقت الثورة عندما بدأت مظاهر الفقر تبدو واضحة أكثر للعيان.

فأصبحت ترى محال البالة في كل مكان وسط إقبال شديد على شرائها من مختلف فئات الشعب، وكون الأمر جاء بالتدريج فقد أصبح أمراً غير مستهجن ولا يدعو للخجل، كون الجميع يذهب إلى نفس المكان؛ إذ إن الأمر لم يكن كذلك فيما سبق، فقد كان أمراً مخجلاً في سوريا أن تقوم بشراء ألبستك من "البالة"، ومصدر استحيائك هنا هو أنك ترتدي ثيابك بعد أن قام أشخاص غيرك برميها، شخصياً كنت مع بعض أصدقائي في الجامعة نرمز لمكان بيع البالة بـ"الأماكن" وهي اسم أغنية للفنان محمد عبده كانت حينها أغنية جديدة، فإذا أردت أن أقترح على أحد هؤلاء الأصدقاء الذهاب لشراء بعض الأحذية من البالة، فسأقول له "الأماكن كلها محتاجة لك"، وهو بدوره يفهم قصدي، وهو صيغة سؤال هل تذهب إلى تلك الأماكن الواقعة تحت فندق أمير في حلب؟ وهذه الأماكن عِبارة عن قبو ضخم كان يضم حوالي العشرين محلاً لبيع البالة، والتي كانت تمتلئ بشتى أنواع الألبسة الأوروبية التي تضاهي بجودتها وسعرها مثيلاتها من المنتجات السورية الجديدة.

لقد أصبح هذا المكان لمدة سنوات مزاراً أسبوعياً لي ولشركائي في ذلك السر، ثم ما لبث أن أصبح بمرور الزمن أمراً طبيعياً، فأصبحت ترى تلك المحال في ذلك القبو وقد تمددت لتصبح منتشرة حتى على الطريق العام، فباتت سوقاً كبيرة للبالة، فأصبحت ترى بعض معارفك هناك بشكل طبيعي، وفي إحدى المرات رأيت أستاذي الذي درّسني في المرحلة الثانوية فتصافحنا وتبادلنا النصائح عن أي الأماكن تحوي بضائع أجود، لقد أصبح الأمر طبيعياً، وبعدها بسنوات قليلة انتشرت تلك المحال في كل شوارع حلب ومدن سوريا، وأصبحت جزءاً من طريقة حياة لشعب كامل.

بعد اندلاع الثورة جلب السوريون تلك العادات إلى الدول المجاورة التي نزحوا إليها في تركيا ولبنان والأردن وحتى الدول في الدول الأوروبية.

قد يقول قائل من جماعة "كنا عايشين" إن تلك الدول وأوروبا على وجه الخصوص منذ زمن وهي تحتوي على تلك المحال وتسمى هناك بـ"سكندهاند"!
لا يا صديقي، فهناك فرق كبير بين "السكندهاند" الأوروبية و"البالة" السورية فـ"السكندهاند" هي سلسلة محلات تحتوي على كل شيء من مفروشات وأدوات منزلية ومستلزمات عمل، إضافة للجلديات والألبسة التي تشبه الجديدة، أضف إلى أنها أشياء جاءت من ذات الشعب الذي يبيعها أو يستبدلها بهدف شراء الأحدث، بينما "البالة" في سوريا فهي الألبسة البالية التي تم التبرع بها مجاناً لصالح دول العالم الثالث، لكن يتم بيعها عبر وسطاء، وهي تضم الألبسة فقط،

يا صديقي.. ليس أمراً طبيعياً أن يلبس نصف شعب في دولة ما من الألبسة المستعملة، ذلك كان قبل الثورة أما اليوم فمن يشتريها في سوريا تصل نسبتهم إلى التسعين في المائة من عموم الشعب السوري.

نعم قد تكون سوريا من أغنى الدول العربية، كما يروّج لها بعض أبواق النظام، لكنها ولا شك كانت تحتوي على شعب من أفقر الشعوب العربية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد