عن القمر والنجوم

أنظر بأسى إلى "النوتة" السوداء الملقاة تحت مخدتي، الممتلئة خططاً وأحلاماً ومشاريعَ ورؤى لحياتي العلمية والعملية، والتي أخرجها من حين لآخر لأزيدها مشروعاً أو أعدل فيها رؤية مُمَنِّياً نفسي أني قريباً سأخرج.. قريباً سأبدأ

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/28 الساعة 02:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/28 الساعة 02:00 بتوقيت غرينتش

كنت دوماً ما أحب السماء.. كنت أحب الاستلقاء تحتها، ومشاهدة السحاب وهو يمر، أو مراقبة القمر والنجوم ليلاً.

في السجن أستلقي على ظهري، وأشاهد السحاب خلال مربعات صغيرة ناتجة من تقاطع شبكة من القضبان، أحاول تجاهلها وتخيل الصورة من دونها.

أشاهد قطع السحاب الكثيرة بأشكالها المختلفة، أحاول تحديد شكل كل سحابة قبل أن تمر، كلها مختلفة في الشكل، الشيء المشترك بينها جميعاً أنها ترحل!

وأنا.. أما آن الأوان لي أن أرحل مثلها؟

ثلاث سنوات ونصف.. اثنان وأربعون شهراً.. ألف ومائتان وستون يوماً.

دفعتي ستتخرج العام القادم في كلية الهندسة، وأنا لم أرَها بعد.

أنهيت أكثر من نصف حياتي الجامعية في السجن، ولم أخطُ بعد إلى الجامعة.

أفكر بأسى مُشاهداً آخر سحابة تختفي ما وراء سقفي المحدد بالقضبان.. متذكراً الأبيات التي أحبها كثيراً للشاعر Oscar Wilde:

I never saw sad men who looked with such a wistful eye.
Upon that little tent of blue, we prisoners call the sky.
And at every passing cloud that goes, with such strange freedom by.

أغلق عينيّ وأتخيل القمر والنجوم، كنت دوماً ما أتخيل أن القمر هو أنا، مضيئاً وساطعاً.
أما النجوم فهي أحلامي، منثورة من حولي كاللؤلؤ، تشع أملاً وبريقاً ملهماً.

لم أدرك وقتها مدى صحة هذا المثل وانطباق هذه الصورة، فقد نسيت وقتها أن النجوم ما هي إلا أجسام مضيئة انطفأت منذ ملايين السنين، ولم يبقَ لها أثر.

أما ما نراه منها في السماء ما هو إلا ضوؤها الذي يصل إلينا الآن لبعدها الشديد عنا، فما نرى في تأملنا إلا مجرد صورة لما كانت عليه السماء منذ ملايين السنين، مما يجعل كل أحلامي البراقة التي أراها حولي، ما هي إلا سراب ميت بالفعل!

أما القمر فهو مثلي فعلاً.. تنبهر بضوئه ما دمت تراه من بعيد، أما إذا اقتربت، فستكتشف تدريجياً أنه في الأصل جسم معتم مظلم، وإذا اقتربت أكثر، فستدرك أنه أيضاً مليء بالثقوب!

هو الواقع كعادته صخرة يتحطم عليها كل ما هو جميل ومشرق.

أنظر بأسى إلى "النوتة" السوداء الملقاة تحت مخدتي، الممتلئة خططاً وأحلاماً ومشاريعَ ورؤى لحياتي العلمية والعملية، والتي أخرجها من حين لآخر لأزيدها مشروعاً أو أعدل فيها رؤية مُمَنِّياً نفسي أني قريباً سأخرج.. قريباً سأبدأ.

أحاول تجاهل الهاتف الداخلي الذي يسخر متَهَكِّماً من سذاجتي.. أحاول إقناعه!

سأنهي كلية الهندسة، سأحصل على الماجستير والدكتوراه، سأدرس بعدها إدارة الأعمال وآخذ دورات في الترجمة، سأنشر روايتي التي طالما حلمت بها وعملت عليها، سأفتح مشاريعي الخاصة التي خططت لها، سأسافر وأجوب العالم.. وأُغَيِّرُه.. سأُغَيِّرُه!

ما زال غارقاً في ضحكه عليّ وعلى أوهامي.

ربما بعد أن تنهي الخمسة عشر عاماً.. يقول ضاحكاً.

أم تظنّ أنك ستخرج في العفو القادم؟ يزداد ضحكاً.

نعم، ستخرج.. كما خرجت في الذي قبله بالضبط!

لا تصدمني كلماته.. لا تجرحني.. أعلمها كلها وأعلم صحتها.. فما هو في الأصل إلا أنا!
ما هي إلا طريقة أواجه بها نفسي بشكل غير مباشر.

أتذكَّر شعر "تميم البرغوثي" في قصيدة "في القدس" وهو يقول:
"فارفق بنفسك ساعة.. إني أراك وَهَنت".

أغلق عيني وأنا مستلقٍ وأتنهَّد.. نعم، وَهَنت.. وَهَنت.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد