أجلس في القطار، قادماً من واشنطن ومتجهاً إلى نيو هيفن للمشاركة في ورشة نقاشية تنظمها جامعة يل عن حال عرب اليوم. على أذنَيَّ وضعت سماعتين، ومنهما تتدفق المقدمة الموسيقية البديعة لـ"نبتدي منين الحكاية" التي لا نهاية لعشقي لها. تأخذني عيناي بعيداً عن "أرض الله الواسعة" بثلوجها القليلة وبحيراتها مترامية الأطراف وأشجارها الضخمة التي يمر عليها القطار، وتصطنع أمامي مشاهد متسارعة ومتداخلة يغلفها الحنين إلى ما مضى.
أشاهد مداعبات عبد الحليم حافظ الرقيقة لعازفي الفرقة الموسيقية، وتستدعي ذاكرتي وجوه الطبال وعازف الناي وعازفي الكمان وابتساماتهم. أتذكر جدتي لأمي حين كنا، أخوتي وأنا، نبيت عندها ونحن صغار ونرفض الاستجابة لنداء النوم. جدتي، رحمها الله ورحم أمي، كانت تأتي بصوت عبد الحليم لا أعلم من أين ثم تطفئ نور الغرفة وتهمس قائلة "عبد الحليم بيغني تحت البيت، يلا اسكتوا وغمضوا عنيكوا واسمعوا الموسيقى الجميلة"، وبعدها يغلق الباب علينا وتنفتح لي طاقات عالم مسحور.
أرى منى الدمشقية، ساكنة باب توما، التي كانت منتصف التسعينيات تنهي دراستها لماجستير الدراسات الإسلامية والعلوم السياسية بجامعة برلين ويسبقها حين التعرف على مصريات ومصريين عشق صوت عبد الحليم والولع بمقدمتي موعود ونبتدي منين الحكاية. أشاهد وجه منى الذي كاد في شبابه يتطابق مع وجوه وأيقونات النساء الحزانى والمكلومات على جدران كنائس الشرق، وتتردد في ذهني أصداء السؤال عن أحوالها الآن. أعرف أنها عادت إلى الشام بعد الدراسة وكونت أسرة واستقر بها المقام بعمل مع مؤسسة تنموية ألمانية. أمازالت حية؟ هل ارتحلت بأسرتها بعيداً عن المأساة السورية؟ هل صمدت أحلامها لوطنها أم تكسرت على وقع الدماء والدماء؟ كانت منى تسخر من ديكتاتورية حافظ الأسد القبيحة التي تخصص فنانوها وصناعها المهرة في خط أسماء "الثالوث المقدس حافظ وباسل وبشار" ورسم وجوههم على كل جدار قائم،
وتتبع ذلك بترديد مقاطع كاملة من الملك هو الملك لسعد الله ونوس ودموع عينيها تتكاثر كمداً وحسرة. أتذكر مشاكستها المتكررة لبعض زملاء الدراسة الأوروبيين معايرة إياهم بجهل وظلامية مجتمعاتهم في القرون الوسطى التي كانت بها دمشق مركزاً حضارياً مشعاً، وولعها باللغة العربية وصوتها المرتفع بها في كل تجمع طلابي. فهل بقي من حضارة الشام يا منى ما يمكن الاستشهاد به، والديكتاتور ومعه الأعوان والأعداء لا عمل لهم سوى التقتيل والتدمير وتشويه ملامح الشام الجميلة؟ وهل بقي في لغتنا ما يقدر على وصف ما يحدث لنا ومن حولنا ولا تعطله الأشلاء والجدران التي لم تعد قائمة؟
ما أتعس من حاولوا العمل العام خارج السياقات الحكومية في بلاد العرب ويقتربون اليوم من خمسينياتهم. أحلام التغيير والتقدم والعدالة الاجتماعية وصون حقوق الإنسان ومواطنة المساواة دون تمييز وتداول السلطة جميعها تحطمت منذ نهاية الثمانينيات دون توقف. نحن جيل المراكب المعطلة والمجاديف المكسورة، لم نصنع انتصارات كبيرة أو نشارك في الخروج من أزمات كبيرة، بل ولم نسهم في إزالة القليل الذي أزيل من آثار هزائم العرب الكبيرة. وها هو يدنو ثلث العمر الأخير أو ربعه الأخير، ونحن بين أوطان لم نعد نأمن للبقاء بها ومنافي تقتلنا وتقضي على إنسانيتنا.
تمضي متسارعة لقطات عابرة من أمسيات الصيف مع أصدقاء الدراسة الثانوية المولعين بالطرب، وائل وهاني ومحمد. وتتداخل معها مشاهد كثيرة للحظات الصفاء في الغربة البرلينية، مع محمود الصيدلي السوري وخالد دارس دكتوراة العلوم الاجتماعية الفلسطيني حيث جمعنا حب الموسيقى العربية وغنائها. أكاد أسمع عزف خالد على العود ونايه الصوفي الذي به ذهب إلى أبهية العديد من الكنائس والمعابد في برلين للمشاركة في ترانيم دينية. أراه وهو يسخر من محمود ومني لفشلنا الذريع في تعلم قواعد العزف أو مجرد الربط بين الإحساس بالموسيقى وبين حركة سماعية لليدين للعزف على العود وحركة سماعية للشفاه لإخراج نغمات الناي. أرى خالد وهو يسعى لتعليمنا قواعد الغناء للتخلص من عبء الشرح المتكرر لقواعد العزف وأملاً في آذان موسيقية تسمعه، ثم تدفعه الصدمة إلى الإلحاح على اكتفائنا بالاستماع إلى ما لا نغنيه وإلا ابتعد عنا وعن أمسياتنا.
بين محمود وخالد تأتي صورة برلينية أخرى، لعازف الناي المصري محمود عسكر. أراه في إحدى "الليالي الطويلة للمتاحف" التي تنظمها حكومة المدينة لتحفيز الناس على زيارة المتاحف والاستمتاع بالفن والتعرف على تواريخ العالم القديم والجديد. أراه واقفاً في بهو المتحف المصري (القديم) ببرلين بالقرب من رأس جميلة الجميلات نفرتيتي، ملكة برلين كما يسميها أهل المدينة، ممسكاً بالناي في خشوع يليق بالملكة ومرتدياً جلباباً نوبياً ناصع البياض ثم محدثاً لنغم شجي يتسلق أعمدة المتحف فارعة الطول ثم يهبط على الواقفين ليسكت في حضرة نفرتيتي كل صوت غير صوت الجمال والبهاء والرقي.
ثم هأنذا أعود إلى محمود وخالد في لقائنا الأخير منذ عامين في برلين، مسترقاً السمع إلى محمود يسرد وقع المأساة السورية على أهله الذين ارتحلوا إلى ملاذات آمنة في الجوار المباشر ومنها إلى ألمانيا حيث الندم على ضياع الوطن وبقاء المستبد.
أتذكر الأستاذ سامي زبيدة، أستاذ علم الاجتماع العراقي المقيم في بريطانيا الذي كتب في نقد الفكر القومي العربي والإسلام السياسي، وأيضاً في فنون الطبخ العراقية وموسيقى بلاد ما بين النهرين. ورشة عمل في جامعة أردنية جمعتنا منذ سنوات، وحديث له بصوت رخيم عرفني على التراث الموسيقي العراقي وصوت ناظم الغزالي ورمزية المتصوفة في أغاني العشق، ثم وصلة غنائية منه على عشاء تأتي بناظم الغزالي وبباب المسجد وبدموعه وهو يتذكر طفولته والعراق الذي أجبر على مغادرته. ومن سامي زبيدة وناظم الغزالي إلى إلهام المدفعي اشتعلت قصة حبي للتراث الموسيقي العراقي الذي لا أتوقف أبداً عن البحث عنه والاستماع إليه أينما عثرت عليه.
يقتلني الحنين إلى ما مرَّ
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.