"لن أطلب ماضياً مضى، كل رجوع يُضمر خيبته، كل عودة مشوبة بالنقصان".
دائماً أكرر في نفسي هذا المقطع من إحدى قصائد زاهي وهبي في ديوانه "راقصيني قليلاً".
لماذا يسعى الإنسان كثيراً لتكرار الماضي ويطلب عودته في حين أن التجارب دائماً ما تثبت أن عودة الماضي ليست في صالحنا؟ حاوِل إحياء علاقة بصديق قديم أو حبيب قديم وستعرف تماماً ما معنى خيبة الرجوع ونقصان العودة.
الكل يتغير، أنت تتغير، أصدقاؤك يتغيرون، الناس جميعاً يتغيرون.. تماماً كما قال الطنطاوي: "النفس كالنهر الجاري، لا تثبت قطرة منه في مكانها، ولا تبقى لحظة على حالها، تذهب ويجيء غيرها، تدفعها التي وراءها، وتدفع هي التي أمامها، في كل لحظة يموت واحد ويولد واحد وأنت الكل". نعم، قد تتغير مشاعرنا خلال لحظات؛ بل قد نتغير نحن خلال لحظات.
وبعيداً عن الأشخاص، فغالباً ما تخذلنا الذكريات الجميلة أيضاً عندما نحاول إحياءها.
ذهبت مرة مع أصدقائي إلى السينما لمشاهدة أحد الأفلام وكانت المرة الأولى التي أذهب فيها إلى السينما. مشاهدة الأفلام في السينما أمر ممتع حقاً؛ فالشاشة كبيرة جداً، والصوت في أعلى درجاته، ومع ذلك تجلس مطمئناً بأن أحداً من الجيران لن يطرق بابك ليعرب عن استيائه وانزعاجه من سوء جوارك.
الازدحام جميل. جميلٌ أن تشاهد شيئاً ما مع المئات من الناس، وجميلة هي التأثيرات الصوتية التي يضيفها الناس عندما يضحكون معاً أو يفاجأون معاً أو يستاءون من شيء ما أو يُعجبون بشيء ما.
بعد مشاهدة الفيلم، تناولت العشاء مع صديقاتي في أحد المطاعم. وبالمناسبة، كثيراً ما تُشعرني لوائح الطعام المستخدمة في المطاعم بالجهل والغباء؛ لأني لا أفهم أسماء الوجبات الغريبة التي يكتبونها؛ فلست من رواد المطاعم ولا من الذوّاقة، كما أني شخص نيّق جداً فيما يتعلق بالطعام، والأصناف التي أتناولها تعدّ على أصابع اليد.
جازفت يومها وطلبت شيئاً من المعروض في اللائحة، ولحسن الحظ أن الطبق كان لذيذاً رغم اسمه الغريب. كنت وصديقاتي سعداء جداً ولم نشأ أن ينتهي يومنا الجميل هنا، فقررنا أن نذهب إلى الكراج مشياً. مشينا في شارع محاذٍ لنهر بردى.
ذكرى مرورنا من ذلك المكان مطبوعة في ذاكرتي بالصوت والرائحة. كنا في شهر أبريل/نيسان، وهو الشهر الذي يفيض فيه النهر فتصدر عنه أصوات أشبه بتلاطم موجات البحر، كما تزهر أشجار النارنج وتفوح رائحتها بقوة في المساء. تحدثنا كثيراً طيلة الطريق ولم نسكت للحظة؛ بل كنا ننتزع الدور في الحديث من بعضنا انتزاعاً.
ركبنا الباص في طريق العودة، ورغم برودة الطقس في المساء أصررت على ترك الشبّاك مفتوحاً ليلفحنا الهواء الرطب العليل المليء بالأكسجين على طريق الربوة. بعض الشوارع مضاءة رغم انقطاع الكهرباء الشامل، ما جعل تلك الأضواء تتلألأ كالنجوم وسط الظلام. وعند النجوم، انتهى ذلك اليوم الجميل وتأرشف مع الذكريات الجميلة التي قررنا أنا وصديقاتي أنه علينا تكرارها وهذا ما فعلناه حقاً.
بعد عدة أشهر من مشوارنا هذا، ذهبنا مرة أخرى للسينما، ثم تناولنا العشاء في المطعم نفسه، طلبت الوجبة نفسها. في طريق العودة، مررنا من الطريق نفسه. الظروف نفسها، أصدقائي هم أنفسهم، أنا أيضاً نفسي! الشيء المختلف، أن مشاعري لم تكن كما كانت في المرة الأولى. أحسست بالملل وأنني أقوم بتأدية واجب ليس إلا.
كررت المعطيات نفسها، لكني لم أحصل على النتيجة نفسها. تُرى لماذا لم يكن شعوري متماثلاً؟ هل لأنني كنتُ في مزاج مناسب لأشعر بأن الهواء عليل، والطقس جميل، والازدحام في السينما ممتع، والطبق الغريب لذيذ، والمشي ليلاً قرب النهر رومانسي؟ هل الأمور أجمل عند تجربتها للمرة الأولى؟ أم أن لكل لحظة في الحياة خصوصيتها وظروفها غير الملموسة التي تجعل من لحظة ما لحظة مميزة وخالدة في نفوسنا.
يمكنك أن تذهب مع الأشخاص أنفسهم إلى الأماكن نفسها وتكرروا الأفعال نفسها، لكن شيئاً ما سيكون ناقصاً في نفسك ولن تدري ما هو. حسناً.. ربما علينا التوقف عن محاولة تكرار اللحظات الجميلة ببساطة؛ لأنها ليست معادلات رياضية تعطي النتائج نفسها كل مرة.
شخصياً، لن أسعى مرة أخرى لتكرار لحظة جميلة. سأترك الأيام الاستثنائية استثنائية وسأدع نفسي تتوق إلى تكرارها، لكني لن أكررها. سأطوي الذكريات الجميلة في أرشيف خاص ولن أبذل جهداً في إعادة إحيائها.. سأشعر بالسعادة؛ لأني عشتها وحسب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.