ذاكرة الزمان‎

قامة قصيرة، وجه ملأت محياه التجاعيد، وظهر أحناه الدهر وثقل السنين، كلامه واضح المخارج مفرز الكلمات، تكاد تجزم بأنه لابن العشرين أو الثلاثين. يتكلم عن القلعة وكأنه عايش فترة البرطقيز أوائل القرن السادس عشر

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/21 الساعة 02:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/21 الساعة 02:42 بتوقيت غرينتش

ترعرعت في أسرة تنحدر من قرية صغيرة بجوار مدينة الرشيدية تدعى تينجداد، قدمت أسرتي بعد مسار طويل من التجوال والترحال إلى مدينة البيضاء مسقط رأسي، تأرجحنا بين مدن كثيرة في رحلة البحث عن قوت العيش، كنا لا نكاد ننصب خيمة الاستقرار في أرض حتى تنقلنا الأقدار إلى أخرى، حتى إننا احترفنا هواية التنقيب عن "الهوندا" (سيارة نقل البضائع).

في إحدى عطل نهاية الأسبوع من عام 1997، أقلنا والدي في سيارته المتواضعة، نحو وجهة لم نكن نعلم أنها ستكون مدق الوتد وأرض الاستقرار والقرار: مدينة مازاغان.

ومنذ ذاك الحين والزمن يتقاذفني بسرعة يمنة ويسرة، إلى أن غادرت أرض الوطن للدراسة ثم الاستقرار، ومرت 20 سنة بالتمام والكمال وأنا كلما أردت الترويح عن النفس، حملت أمتعتي وسافرت إلى بلاد بعيدة، ولم يكتب لي اكتشاف مدينة جديدة ساحرة ورؤية مآثرها وتراثها البرطقيزي العتيق.

في يوم من أيام فبراير/شباط الباردة أشرقت شمس الصباح وأشرقت معها شعلة الاكتشاف في نفسي المتقدة بحب مدينتي، فخرجت في أولى ساعات الصباح متجهاً بشوق كبير نحو القلعة البرتغالية (الملاح)، جذبني باب المسقاة البرتغالية الخشبي الكبير بحلقته الحديدية التي يكسوها أثر الصدأ، دخلت رفقة زوجتي، اشترينا تذكرتين، وإذا برجل قصير القامة، طاعن السن يقف علينا ويحيينا بكلام تعلوه الحلاوة والطلاوة، ترق الأذن لسماع ذبيبه العذب: "سيدي، لالة، صباحكم مبروك.. زوج دقايق من وقتكم نوضعكم في السياق التاريخي د السقاية.. هاد لا ماكيط لي كتشوفو قدامكم هي نموذج البناء الأول ديال القلعة البرتغالية في أوائل القرن 16".. وبدأ السرد.

قصة القلعة والسقاية لا تهم بقدر ما تهم قصة هذا الرجل الذي سميته "ذاكرة الزمان"، لاحظت ذكاء الرجل وإلمامه بتفاصيل الأحداث والأزمنة والأمكنة، فدفعني الفضول إلى شخصنة الحوار والدخول معه في نوستالجيا حياته.

سيدي عبد الجليل البوعلامي المزداد سنة 1938، مراكشي الأصل عاش أوائل سنواته في المدينة الحمراء، ثم انتقل به والده وهو في ريعان طفولته إلى مازاغان حيث أتم دراسته في إحدى المدارس المعروفة اليوم باسم "الرافعي"، كان يطلق عليها أيام الاستعمار الفرنسي
"l'Ecole Musulmane d'apprentissage"، أتم تعليمه الأصيل هنالك؛ ليبدأ العمل سنة 1952 في الحي البرتغالي كمرشد سياحي غير رسمي؛ ليلتحق بعد ذلك بالمسقاة البرتغالية كمرشد رسمي ملحق بوزارة الثقافة في أول ظهور لها بعد خروج الاحتلال.

قامة قصيرة، وجه ملأت محياه التجاعيد، وظهر أحناه الدهر وثقل السنين، كلامه واضح المخارج مفرز الكلمات، تكاد تجزم بأنه لابن العشرين أو الثلاثين. يتكلم عن القلعة وكأنه عايش فترة البرطقيز أوائل القرن السادس عشر، يتكلم عن المنارات الأربع وأماكنها حول سور القلعة، عن الكنيسة المشهورة، عن باب القلعة، عن المدافع الحديدية والبرونزية، وعن المسقاة كيف كانت تملأ وتفرغ من مياه الأمطار حتى إنه يصفها بالتفاصيل الدقيقة المملة: "المسقاة أولدي بناوها البرطقيز عام خمسطاش لمية وربعطاش، كانت فالأول مخزن ديال السلاح، قبل ما تولى مطفية كيخزنو فيها الما ديال الشرب.. السقاية أولدي تبنات على شكل بيت خزين فيه 34 ميترو على 34، وهازينها 25 بودرة (أي عمود)، وكتهز 3 د المليون لتر ديال الما".

إطلالته على العقد الثامن من عمره، لم تأخذ شيئاً من قدراته الذهنية والعقلية، تحس وكأنه يساير العصر بذكاء كبير لدرجة أنه يقترح عليك حتى مكان أخذ الصورة التذكارية، وإن كان من الأحسن أخذها بالفلاش أو بدونه حتى يظهر انعكاس الأشعة المنبثقة من سطح المسقاة.

للزمان ذاكرة تحفظها له أذهان وعقول هؤلاء المسنين الذين وهن العظم منهم واشتعلت رؤوسهم شيباً، يزيدهم إهمالاً نظرة الناس بالتحقير إليهم وتخلي المسؤولين عنهم، بدأت مناجل الانقراض تحصد صفوفهم، بسبب ضعف المتابعة الطبية وقلة الاهتمام بحالاتهم الصحية والاجتماعية، أبناء الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، المؤرخون الأقحاح، خازنو كنوز الماضي والشاهدون الحقيقيون على الأماكن والأزمان والأحداث، وجودهم تراث ما بعده تراث، يلقنون التاريخ بالمشافهة والوصف المحكم حتى يخيل إليك أنك تعيش قبل قرون مضت، حضورهم أنبل من ذلك البناء المتهالك الذي يتم ترميمه ليبقى شاهداً على عبق حقب مضت.. فالحجر يرمم، لكن الإنسان لا يرمم.

قصة سيدي عبد الجليل البوعلامي ليست إلا نموذجاً من قصص هؤلاء الرجال الذين يحملون التاريخ الثقيل فوق أكتافهم، حتى إذا أنقض ظهورهم، وأثقل كواهلهم، رمى بهم الإهمال إلى غياهب النسيان، فدفنوا تحت الثرى، ودفن التاريخ معهم.

ختمنا زيارتنا المحملة بأشجان الحنين والحب للإنسان والمكان، فارقنا القلعة على أنغام دعوات رسمية كتلك التي يدعو بها أئمة المجالس العلمية وعلماء الدروس الحسنية، وكلنا شوق للعودة إليها في مستقبل قريب بإذن الله، راجين من الرحيم الودود أن يحفظ سيدي عبد الجليل وأمثاله من حفاظ تراث المملكة، ويكرمنا بلقائهم والاستئناس بحكيهم مرات وكرات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد