كنت قد قررت يوماً أن أنسى، ألا أقرع أبواب تلك الذكريات من جديد، ألا أعود لذلك الماضي المثقل بآلام الفراق، لتلك الروح المثخنة بالجراح، وذلك الجسد المتعب، لذلك الصندوق الأسود المليء بأسرار وحكايات، بأسئلة لم أجد لها إجابات شافية، لعَبرات انحبست طيّ الكتمان، اختزلتها عيون ناعسة، ونظرات تبوح قسراً بفرط الحنين والاشتياق، لقلم انبرى يحدث الصحف عما يختلج الوجدان والخاطر، ووحدة كانت الرفيق الأوفى والصاحب وقت الضيق، لحكاية عشتها وخبرت فصولها، وكان لزاماً أن ألعب فيها دور البطولة، أن أبدو فيها بمنظر القوي قسراً، أن أنكر على نفسي آلامها وأوجاعها.. حكاية ظننت أنني أستطيع نسيانها، ولكن تأبى الأيام أن تنسيني إياها.
في سن الثامنة عشرة حزمت حقائبي استعداداً لسفر طويل، إلى حيث لا أدري من المكان إلا اسمه، كنت قد جمعت بعضاً من ذكرياتي وكتبي ومصحف الجيب ودموع أمي الحزينة على فراقي حتى قبل أن أرحل، في تلك الليلة جلست وعائلتي نتبادل أطراف الحديث ونسترجع ذكرياتنا معاً، لم أستطِع النوم آنذاك، كيف سأترك أهلي وأحبتي وكل من عرفت؟ كيف سأبتعد عن حبيبتي فلسطين؟ فكيف للقلب أن يهجر الضلوع؟ وكيف لعين اعتادت أن تغض الطرف عن سوى الوطن أن تبصر غيره؟
ثم جاء الصباح معلناً دنو الرحيل، تناولت فطوري الذي أخبروني أنني لن أجد مثله حيث أذهب، أنهيت وسلمت على أهلي وعانقتهم عناقاً دافئاً، وهممت بالخروج لأجد أخي ذا السنتين يتشبث بي وكأنه يأبى فراقي، حبست مدامعي حينذاك خشية أن يحسوا بضعفي فيقلقوا عليَّ، فقد تعلمت أنه لا بد من أن تكون قوياً حتى في أحلك الظروف، ومضيت نحو سيارة الأجرة بعد أن شممت عبق ياسمين بيتنا لآخر مرة إلى حين، أشق طريقي في الحياة، أرتحل من حضن الوطن الدافئ إلى برد الغربة القارس.
كانت كل خطوة أبتعد بها عن بيتنا أحس وكأن جزءاً مني ينتزع، وكأن قلبي يتفتت قطعاً، نعم؛ ها هو الحبل السري يوشك أن ينقطع، ساعات معدودات ويخرج الجنين من بطن أمه؛ ليرى عالماً آخر مختلفاً تماماً؛ حيث لا أحد سيعتني به إلا نفسه، كان مطار عمان آخر محطة أصل إليها قبل بدء رحلة السفر الطويلة، وكان آخر مكان أسمع فيه لهجتنا، آخر مكان -قبل الإقلاع- تبصره عيناي فيه رائحة وطني أو شيء منها.
وأقلعت الطائرة وبدأت معها رحلة الغربة التي راحت معالمها تتضح شيئاً فشيئاً، مضيفة طائرة تتحدث بلغة لا أفهمها مع أنها تبدو لطيفة، أجلس وحيداً لا أعرف أحداً ولا أحد يتحدث لغة أفهمها، أنظر من نافذة الطائرة نظرة وداع لوطن أحبه وأهواه، وتبدأ ملامحه تتلاشى شيئاً فشيئاً، كم كانت الرحلة طويلة، أم أنه شوق القلوب إلى الضلوع من يجعلها كذلك، أم أنها دقات قلبي تتسارع إلى الخلف تحث الخطى تأبى الفراق! ولكن طول المسافات أقوى وأمر، وبعد رحلة تفكير طويلة استرجعت فيها شريط ذكرياتي التي تركتها ورائي، تهبط الطائرة معلنةً وصولي إلى مدرسة جديدة من مدارس الحياة، مدرسة أيقنت فيما بعد أنها كانت الأقسى على الإطلاق، إنها الغربة وكان عنوان الدرس الأول فيها الذي رافقني طوال سنين مكوثي فيها: وجع اغتراب.
وحين وطئت قدماي أرض "الوطن الجديد" عادت بي الذاكرة للتغريبة الفلسطينية مع فرق الإرادة بالسفر طوعاً، ولكن الشعور ذاته، هو أن الروح ابتعدت عن الجسد لتذهب إلى جسد آخر أصبحت أسميه الوطن الثاني، نعم.. ففي الغربة تكثر الأوطان، ولكنني أعلم أن الله -عز وجل- لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه، وأن قلبي معلق بك وحدك يا وطني.
كان كل شيء يبدو غريباً في وطني الثاني، ليس البشر فحسب؛ بل حتى المنازل، أبحث عن لغتي العربية فلا أجدها، أبحث عن أي تشابه يعوض روحي عن بعض من اشتياقها، عن مستقر لها ومستودع، ولكن لا بد لروحي أن تعتاد غربتها، ففي الغربة أنت جسم غريب تدعى "أجنبياً"، لفظ كنا نعتقد صغاراً أنه كان يطلق على الإنسان الغربي، ولكن كبرنا لنعلم أنه لقب كل غريب عن وطنه، فكان لزاماً أن أتأقلم، مع العادات والتقاليد ومع كل غريب لم أعتَده وإلا كانت الغربة لتلفظني، فهي غالباً لا تقبل الغرباء، مع أن الكلمة ولدت من رحم سابقتها، ولكن في أول لقاء مع أستاذ جامعي فيما بعد كان الترحيب: "أنصحك بأن تعود من حيث جئت فحتى أبناء هذا الوطن قد لا يستطيعون الاستمرار".
"لن تستطيع معي صبراً"
ليس الخضر وموسى -عليهما السلام- بل الغربة وأنا، ففي كل شيء نحن مختلفان، وفي كل لقاء تهمس لي في أذني: "وكيف تصبر على ما لم تحِط به خبراً"؟ وكيف تعتاد عيشةً لم تعِشها قط في بلدك؟ وكيف ينطق لسانك بلهجات ولغات لم يعرفها لسانك العربي من قبل؟ في دينك سأبتليك حد الإرهاق، وفي تربيتك سأمتحنك حد النسيان، وفي فكرك سأختبر صمودك، نعم.. كانت تجلد في كل موضع، ولم يكن لي معين إلا الله وكتابه الذي كنت أحفظه ويحفظني، ولكن خلق الإنسان ضعيفاً، وكان جهاد الغربة جهاداً قاسياً أجبرتني فيه على العزلة والوحدة، أن أكثر الحديث مع نفسي، مع صحفي وقلمي، فالقوم يتحدثون بلسان لا أفهمه، وإنني بينهم غريب، افتقدت الصاحب، وحنان أمي، ومساندة أبي، وإخوتي وكل أهلي، وحتى ومائدة الطعام فالمأكل مختلف تماماً، بل وحتى المبيت، ففي إقامة جامعية نزلت في غرفة صغيرة تشاركت فيها كل شيء -عدا السرير- مع مَن نزلوا فيها، أعيش فيها وفق نظام حياتهم، فأنا الغريب وعليَّ أن أعتاد كل شيء، وكان أقساها أنهم يتحدثون بلهجتهم المحلية التي لا أفهمها.
كانت أول حقيقة أوقنها: أن غربة الأوطان هي أقسى أنواع الغربة، فهي غربة كل شيء، هي حيث لا يوجد إلا أنت أو ربما بقية منك، هي حيث يكون قلبك وحيداً ضعيفاً لا يقوى حتى على الخفقان، هي حيث تكون أسيراً في سجن كبير؛ حيث تتعلم كيف تشتاق، ما معنى الفراق، ما معنى التفاصيل الصغيرة؛ حيث يمتلئ قاموسك بكلمات أخرى: حرمان، فقدان، وحدة، قلق، خوف؛ حيث ترقب من بعيد، توجّه أنظارك صوب ذلك الوطن وعيونك ملأى بالدموع في انتظار لقاء ربما سيطول، أو ربما حتى تجف مآقيك ويصبح قلبك فارغاً.. وللحكاية بقية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.