كان الأمر مزيجاً من الرعب والفكاهة، ودَّعَنا الرجلُ وعائلته الذين كنا نسكن عندهم وداعاً حميمياً باعتبار أن احتمالات عودتنا من الشيشان أحياء ضئيلة جداً.
ركبنا سيارة سوفييتية متهالكة، وغادرنا بلدة خسافيورت الداغستانية، قادنا المقاوم الشيشاني إلى حدود جمهورية داغستان، ذات الحكم الذاتي، لنعبر إلى الشيشان، كلا البلدين ضمن الفيدرالية الروسية، غير أن الشيشان ترغب في الاستقلال، ولذلك فالحرب مستعرة.
كنا نسير في طريق عام مرصوف إلى أن انحرف مرشدنا إلى طريق جانبي ترابي، ثم هبط فجأة في نهر قد هرم، فلم يبقَ منه إلا مستوى من الماء يسمح لسيارتنا بعبوره، ثم أكملنا سيرنا لنصبح في طريق موازٍ تماماً للطريق المرصوف.
* لماذا تضحك يا أخي؟ (قالها مرشدنا الشيشاني بلغته العربية التي يتحدثها بطلاقة)
– ألم تخبرني أننا سنعبر إلى الشيشان عبر طرق التهريب؟
* نعم.
– أليست هذه المركبات العسكرية التي تسير على الطريق العام الموازي لنا روسية؟
* نعم.
– أليست في طريقها مثلنا إلى الشيشان؟
* نعم.
– أليس بوسعها تصويب مدافعها إلينا باعتبار أننا نسلك طريقاً للتهريب؟
* نعم ولكن لن يفعلوا، الجنود الروس وكما سترى لاحقاً أُقحموا في هذه الحرب وتُركوا هنا دون أسلحة كافية
ودون طعام يشبعهم.
* أنت تتحدث عن جنود إمبراطورية سوفييتية وإن كانت قد سقطت.
– لقد اتفقنا معهم على أن يغضوا نظرهم عن إمداداتنا وسياراتنا الآتية من داغستان إلى الشيشان مقابل ألا نستهدف نقطتهم الحدودية.
* لكن الدعم الذي يصل الشيشان من داغستان سيصب في النهاية ضدهم كقوات روسية، فكيف يسمحون بتقوية خصومهم؟
– يا صديقي هم شباب صغار السن لا يجدون مبرراً لأن يتركوا أحضان حبيباتهم ليموتوا هنا في أرض غير أرضهم.
لم أقتنع بكلام المقاتل الشيشاني أو ربما زاد من دهشتي، هو ضد المنطق وضد العقل، لكن لماذا أتحدث عن العقل وقد تناسيته تماماً عندما قررت أن أمنح نفسي عطلة من حرب البوسنة لأقضيها في حرب الشيشان؟ كان مشهد مقاتليهم على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، بلحاهم ووجوههم القوقازية لا يقاوم، كانت نفسي المجنونة تحثني على الذهاب إلى هناك مهما كان الثمن.
أعترف، لقد تصرفت كشاب طائش حين اتصلت بالزملاء في غرفة الأخبار بقناة إم بي سي، وأبلغتهم بأنني سأذهب إلى الشيشان إن كانوا في حاجة إلى تقارير إخبارية من هناك، فردوا بأنهم أرسلوا بالفعل نحو ثلاثة فرق إلى المنطقة، ولا داعي لسفري، وعليَّ البقاء في سراييفو لمتابعة تغطية الحرب، فشكرتهم وقررت السفر.
توجهت إلى موسكو بتأشيرة سياحية، لا تمنحني حق العمل الصحفي، نصحني أصدقاء هناك بالخطوات المطلوبة للوصول إلى الشيشان، عليك أن تركب الطائرة، فإذا لم تسقط وهبطت في محج قلعة عاصمة داغستان، اذهب إلى بلدة حدودية اسمها خسافيورت، وهناك يمكن التنسيق مع المقاتلين الشيشان الذين يحتضنهم إخوانهم في العقيدة أهل داغستان، وهم سوف يصطحبونك إلى داخل أراضيهم الشيشانية، غير أن ذلك يتطلب تصريحاً من السلطات الروسية بصفتك الصحفية للسفر إلى هناك، وهو ما ليس بوسعك الحصول عليه، فشكرتهم وقررت السفر.
من موسكو إلى محج قلعة إلى خسافيورت هي قصة بحد ذاتها، ففي هذه الأيام من عام خمسة وتسعين كانت الحركة في هذه المناطق مرهقة للغاية، فالنظام الشيوعي بقوانينه وأساليبه ما زال قائماً في نفوس الناس رغم سقوط الشيوعية، ولأنها مرحلة انتقالية فإن مزايا الشيوعية نفسها قد فُقدت، فلا أمان، وبوسع أحدهم أن يقتلك ليستولي على حقيبتك التي لا يعلم ما إذا كانت تستحق أم لا، والمنطقة تعيش حياة شبه بدائية لا يمكن أن تتخيل معها أنها كانت ضمن الإمبراطورية السوفييتية يوماً ما.
في الفندق الرئيسي بالعاصمة محج قلعة تركني الرجل الذي ساعدني واصطحبني من المطار، في كل طابق هناك سيدة تعطي النزلاء مفاتيح غرفهم وتراقبهم، طلبت منها شاياً، أتت لي بإبريق ضخم من الماء المغلي، ثم بإبريق آخر صغير به شاي مركز، وعليَّ أن أخلط الاثنين وأتحكم بمقدار كل منهما للحصول على الشاي الذي يوافق رغبتي، ثقيلاً كان أم خفيفاً، وأتت أيضاً بنحو نصف كيلوغرام من السكر، وطلبَتْ مبلغاً وقدره دولار أميركي واحد!
أردت أن أعطيها ما يساويه بعملتها الوطنية، فغضبت ورفضت، هي تريد دولاراً أميركياً، وعندما فعلتُ انفرجتْ أساريرها، ومنحتني النصيحة: إياك أن تفتح الباب لأي طارق، وأغلقه جيداً من الداخل، فبوسعهم اقتحام الغرفة إذا علموا أن أجنبياً بها. نمت بملابسي ومعطفي وحذائي، فالحجرة يرثى لها.
في الصباح توجهت إلى خسافيورت، أوصلنا بعض المعارف بعائلة تؤوي الصحفيين في منزلها لقاء مبلغ زهيد لعدم وجود فندق في البلدة، وضعت حقائبي ثم دلني على مركز للصحفيين الأجانب تابع للمجموعة الأوروبية، يقوم المراسلون من خلاله بإرسال تقاريرهم التلفزيونية إلى قنواتهم.
لم أصدق عينيّ عندما دخلت، فقد وجدت زميلاً بولندياً كان يشرف على ذات المركز في سراييفو قبل فترة، تعانقنا، سألني أين فريقي، أجبته بأنه لا فريق معي وأنني هنا وحدي، وأنني أبحث عن مصور، رد سريعاً: أنت مجنون، هنا ليس مثل سراييفو يمكن أن تجد مصورين أو عاملين في هذا المجال، عُد إلى هناك أفضل من ضياع وقتك هنا فلا أمل لك. شكرته وقررت أن أبقى.
اتصلت بالزملاء في غرفة الأخبار بقناة إم بي سي في لندن، وأبلغتهم أنني في داغستان وسأكون حالاً في الشيشان، دُهشوا بالطبع، وأبلغوني أن فرقهم غادرت الشيشان عائدة إلى لندن وأنهم يرحبون بتقاريري، حمدت الله على هذا التغيير.
بعد نحو ثلاثة أيام، وما إن دخلت إلى المركز الصحفي في خسافيورت حتى صاح صديقي البولندي: عندي لك أخبار عظيمة، لقد وصل أمس مصور بلجيكي لديه مهمة عمل هنا مع الصليب الأحمر، وما إن ينهي مهمته خلال يومين حتى يكون مستعداً للسفر معك إلى الشيشان، بشرط ألا يذهب إلى العاصمة غروزني التي أنهكتها الطائرات الروسية تماماً، أجبته بالموافقة، طلب مبلغاً خيالياً في اليوم وكان عليَّ أن أوافق وأشكره وأقرر السفر.
وهأنذا معه الآن في هذه السيارة العتيقة نسلك طرقاً مجهولة مع هذا المقاتل الشيشاني الذي يتحدث العربية ليوصلنا إلى مقر للمقاتلين مع بعض عائلاتهم، وهو في الحقيقة فيلّا مملوكة لأحدهم تبعد نحو أربعين كيلومتراً عن العاصمة الشيشانية غروزني، فيما الحرب دائرة في البلاد.
ولأني أؤمن بالمثل القائل "أقرع ونُزهي"، وبرغم أنه ليس معي من فريق للعمل إلا هذا المصور الذي تعرفت إليه للتو، فإنني أطلقت لأحلامي مداها، فطلبت من مرافقي لقاء جوهر دوداييف، ذلك الجنرال الذي كان أول مسلم يحصل على منصب قائد لفرقة عسكرية في القوات الجوية السوفييتية، والذي يقود المقاومة الآن كرئيس للشيشان بعد انتخابه عام واحد وتسعين.
بقينا في هذه الفيلا أياماً في الانتظار، دخل علينا رمضان وأنا مع هؤلاء المقاتلين وعائلاتهم، نصوم ونقرأ القرآن في انتظار التصريح لي بلقاء الزعيم الشيشاني، فيما صديقي المصور لا يصوم ويعد نقوده التي يتحصل عليها كل يوم وهو جالس في مكانه دون عمل، إلى أن استُدعيت لأُبلَّغ بالموافقة على اللقاء، كانت فرحتي منقوصة، فمكان اللقاء عكس كل ما تصورت، إنه في العاصمة غروزني؛ حيث اشترط المصور ألا يذهب.
عدت إلى الفيلا سريعاً وأنا مقطب الحاجبين، أعددت حقيبتي الصغيرة على عجل وهممت بالخروج، سألني المصور دهشاً: إلى أين أنت ذاهب؟ أجبته، فذكّرني بالشرط بيننا، أبلغته أنني لذلك لم أطلب منه حزم أمتعته، قال: وماذا ستفعل وحدك؟ قلت له: حتى ولو كان حديثاً للصحافة المكتوبة، حتى ولو بكاميرا فوتوغرافية، هذه فرصة تاريخية ولن أدعها تمر، غضب جداً إلى أقصى حد، ثم قال: لن أدعك وحدك، سآتي معك.
كنت أتفهم تخوف المصور، فالعاصمة الشيشانية غروزني كادت تُمحى عن ظهر الأرض، دكتها الصواريخ الروسية دكاً حتى أوشكت ألا تبقي فيها حجراً على حجر، وقد هجرها أهلها، ولهذا استبعدت تماماً أن يكون دوداييف ما زال مختبئاً بها، والصواريخ الروسية تبحث عنه ليل نهار.
إذاً نحن الآن على مشارف غروزني، الطرق خاوية، سيارتنا المتهالكة تشق الطريق إليها بشق الأنفس، تسير فتتعطل فتتوقف، ثم يعالجها مرافقنا فتستأنف المسير، فيما الطائرات الروسية المقاتلة نراها تحلق وترمي حممها على أطراف بعيدة من المدينة وننتظر نحن دورنا، كنت مغتاظاً من الرجل؛ فلو كان ما يسقط على المدينة من السماء مطراً وليس قذائف لانتابه خوف أكبر ولو خشية أن تبتل ملابسه، لكنه كان يتصرف بهدوء شديد، وبأعصاب باردة.
السيارة صغيرة وأنا محشور فيها مع آخرين بمآربهم المختلفة، عادم السيارة يبدو أنه معطل وصوت فرقعاته يختلط مع صوت القذائف فلا تستطيع التمييز بين هذه وتلك. أعربت عن أمنيتي بألا أموت في مثل هذه السيارة وفي مثل هذا الزحام، تمنى لي أحد المحشورين تهكماً أن تكون ميتتي في سيارة مرسيدس.
المشهد في شوارع العاصمة مخيف، لا وجود إلا للموت، أغلب البنايات محطمة، أحياء بكاملها مدمرة، الأكثر رعباً هو مشهد تلك الصواريخ التي سقطت من الطائرات الروسية ولم تنفجر فزرعت في الأرض، يبدو أنه قد انتهى زمن صلاحيتها فلم تعد تعمل، أيُّ دمار يمكن أن يحدث أكثر لو انفجرت هذه العشرات من الصواريخ، وددت لو كان في مقدوري الآن أن أشكر السائق وأقرر العودة.
أدخلنا إلى بيت خشبي يرتعد ويرتج بدوره كلما مرت فوقه طائرة، قيل لنا انتظرا هنا حتى تأتينا تعليمات أخرى، ساعة فساعتان فثلاث ساعات، مرت كأنها دهر بأكمله، أزيز الطائرات لا يتوقف، أصوات القذائف تقطع الصمت من حين إلى آخر.
ثم دخل علينا مرافقنا ليبلغنا اعتذار الرجل عن المقابلة، فقد اضطر إلى التحرك نحو منطقة ما لظروف الحرب، هكذا أُبلغت. فوجئت، حزنت جداً، لُمت نفسي، فهذا المصور البلجيكي الذي برفقتي يتحدث الروسية بطلاقة، ويبدو أنهم شكوا فيه، حسبوه جاسوساً، طلبت أن أنطلق إلى شوارع غروزني لأصور ما أستطيع، لا أعلم لماذا شعرت بالأمان والحماسة في شوارعها أكثر مما كنت أشعر في هذا البيت الخشبي.
بعد قرابة عامين كنت في غروزني مرة أخرى، أسجل كيف تسير الحياة فيها بعد حربها الأولى وقبل حربها التالية، في الميدان الرئيسي كان المتصوفون يرددون أناشيدهم، رأيت صورته مرفوعة في حلقات الذكر، سألت فكانت الإجابة: نحن لا نعتقد أن زعيمنا قد اغتيل، لا شأن لنا بما نقلته وسائل الإعلام يوم الحادي والعشرين من أبريل/نيسان عام ستة وتسعين بأنه قُتل أثناء مكالمة له بواسطة الأقمار الصناعية مع الرئيس الروسي يلتسن، الرئيس جوهر دوداييف ما زال حياً، إنه مختبئ وسيعود يوماً لاستكمال مهمته وتحرير الشيشان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.