عمر يختارُ قالبه

قوالب المجتمع التي تجبر طيننا الصناعي على التقولب فيها هي فخ متقن أحياناً للتخلص من أعظم وأنبل ما فينا، بالضبط لتدجين أعظم وأنبل ما فينا، يمكن لبعض قدراتك ومواهبك أن تسهم في تغيير المجتمع، في جعله أفضل

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/17 الساعة 07:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/17 الساعة 07:21 بتوقيت غرينتش

خُلقنا من طين، ونبقى كذلك من عدة جوانب، لكن جوانب الطين فينا لن تكون من ذلك الطين الذي تعوَّدنا عليه؛ بل ستكون من نوع خاص منه، نعرفه أيضاً، واستعملناه صغاراً، وربما لا نزال نشتريه لأولادنا، إنه الطين الملون، الطين الصناعي، يبقى جزءاً من شخصياتنا كالطين الصناعي تحديداً.

نولد ومعنا مقدرات معينة، مواهب فطرية لم نبذل جهداً في الحصول عليها، بعض من الصفات التي يمكن أن تكون غير متوافرة عند البعض الذين يملكون بدورهم صفات أخرى، نكتسب بعد ولادتنا مهارات وخبرات من محيطنا، بعضها ينمّي من صفات ومواهب كانت موجودة، ولكنها خافتة أصلاً، بعضها يستثمر ما هو موجود أصلاً، وبعضها يضيف -بالتدريب والصقل- ما لم يكن موجوداً أصلاً.

كل هذه الصفات، بمعزل عن كونها فطرية أو مكتسبة، كلها توضع في قالب معين من القوالب المتوافرة من حولنا، بعبارة أخرى: نوضع نحن، بما فينا من صفات، في أحد القوالب الجاهزة من حولنا.

لمن يعود الفعل في "نوضع"، ليس إلى "نحن" بالضرورة، ليس إلينا، كثيراً ما نوضع داخل قوالب لم نختَرها حقاً؛ بل اختارها المجتمع من حولنا، بل ربما جعلنا نتصور أننا نختارها، زوّر رغبتنا بالتدريج وجعلنا نقتنع بأن قالب "الطبيب" أو "المهندس" أو "رجل الأعمال" هو الأنسب لنا، أو الأنسب لما نملكه من صفات.

كم من متفوق وُئدت رغباته الحقيقية تحت قوالب المجتمع البرّاقة، ربما يكون نجح فعلاً بما أوتي من مواهب، لكن روحه الحقيقية كانت لا تريد بريقاً اجتماعياً عابراً؛ بل تريد نوراً يزيدها سطوعاً.

قوالب المجتمع التي تجبر طيننا الصناعي على التقولب فيها هي فخ متقن أحياناً للتخلص من أعظم وأنبل ما فينا، بالضبط لتدجين أعظم وأنبل ما فينا، يمكن لبعض قدراتك ومواهبك أن تسهم في تغيير المجتمع، في جعله أفضل، لكن ذلك لن يكون بالضرورة عملاً مناسباً للبريق الاجتماعي، لن يؤمن بالضرورة متطلبات الرفاهية، بالمقابل، فإن المجتمع بكثير من مؤسساته المستفيدة من بقائه كما هو، قد يروج لقوالب معينة، يدفن فيها الموهوبون مواهبهم، مقابل أن يحصلوا على متاع زائل، والكثير من الاحترام الزائف.

يمكن لشخص يملك موهبة القيادة أن يقنع بقالب ضيق، فيقود مؤسسة ربحية، بدلاً من أن يتسع حجم طموحه إلى قالب أن يقود مجتمعه أو أمَّته.

ويمكن لمن يملك موهبة القبول أن يقنع بقالب سطحي يستخدم موهبته في التسويق والترويج لما هو زائل، بدلاً من أن يستثمرها في نشر بذور الوعي والإيمان والعمل.

ويمكن لمن يملك ذكاء وقَّاداً أن يقنع بمهنة توفر له متطلبات لم تكن يوماً ضرورية، بدلاً من أن يستخدم ذكاءه هذا في توفير متطلبات حقيقية.

إنها قوالب موجودة، ونحن من طين صناعي، نتكيف من خلالها، نتشكل كما يريد القالب، وشيئاً فشيئاً يصير ذلك القالب كما لو أنه خُلق لنا، أو أننا خُلقنا له.. مجرد تعوُّد.

وعندما تملك الوعي والإرادة، فإنك تختار "القالب" الذي تكون فيه ما أرادك الله أن تكون، القالب الذي تزدهر فيه صفاتك التي شاء الله أن تكون فيك، ويكون فيه ما تحارب الصفات التي شاء -عز وجل- أن يختبرك فيها.

لكل منا قالبه "الأنسب" الذي يمكننا من خلاله أن نكون ما أرادنا الله أن نكونه.

وأين تجد قالبك الأنسب هذا؟
ستجده عند من خلقك، هو الأعرف بما يناسبك وما لا يناسبك، عندما يكون لديك جهاز كهربائي من ماركة معينة، فإنك تراجع "كتيب الاستعمال" الذي يخص الشركة المنتجة.. لن تذهب حتماً إلى شركة أخرى، ولن تذهب حتماً إلى كتيب استعمال يخص جهازاً آخر.. منطق!

ووجد عمر بن الخطاب ما يمكن أن يتشكل طينه من خلاله، ولم يكن يشبه ما سيفكر أغلبنا فيه.

لسنا متأكدين من شيء إلا أن تلك الآيات كانت مثل القالب الذي احتوى الطين العمري بكل ما فيه من قدرات وصفات، كان ذلك القالب هو البيئة التي أثمرت فيها صفات عمر ليتشكل عملاقاً ساهم في صنع أعظم حضارة عرفتها البشرية، لم يخبرنا عمر بسند أو حديث عن تأثره بتلك الآيات تحديداً، لكن كل سيرته، كل ما في حياته، ينقل لنا أنه هو قد "وشم" بتلك الآيات، أنها قد "شكلته"، قد وضعته في قالبها العملاق، وجعلته، بالتدريج يصبح عملاقاً ليكون على مقاسها.

عن أي آيات نتحدث؟

عن آيات في سورة كان سبب نزولها مرتبطاً بإسلامه، رضي الله عنه.. سورة (ص).

نقل القرطبي والنيسابوري: لما أسلم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- شق على قريش إسلامه، فاجتمعوا إلى أبي طالب، وقالوا: اقض بيننا وبين ابن أخيك!
فأرسل أبو طالب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تمل كل الميل على قومك.
قال: "وماذا يسألونني؟"، قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتعطونني كلمة واحدة وتملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم"، فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا لا إله إلا الله"، فنفروا من ذلك وقاموا، فقالوا: "أجعل الآلهة إلهاً واحداً"، فكيف يسع الخلق كلهم إله واحد.

فأنزل الله فيهم هذه الآيات: "ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)".
كانت تلك هي الآيات الأولى من سورة (ص).
قريش تزلزلت بإسلام عمر، أدركت أن الأمر قد بدأ يخرج عن السيطرة، وصارت تبحث عن وسيلة لاحتواء الدين الجديد، للتعايش معه، بدلاً من أن يأتي وقت لا تجد فيه مكاناً لها بتمدده..
العرض واضح، دعنا وشأننا، ندعك وشأنك.
والجواب أوضح: الحجر الأساس للدين الجديد، للحضارة الجديدة التي ستبنى على هذا الحجر، يتناقض مع تعايش من هذا النوع.
"لا إله إلا الله" في جوهرها، تحتوي -بوضوح لا يمكن المساومة معه- على "نفي" لكل إمكانية مساومة عليها.

هذه الـ"لا" تسمى لا نافية للجنس، إنها "تنفي" كل إله دون الله، تنفي كل ما يمكن أن يزيح هذه الـ"لا"، أو يقنعها، أو يؤجلها، أو يجعلها "نعم" مغلفة، أو "لا" خجولة.

لا ريب أن عمر بن الخطاب كان يتفاعل مع كل ذلك بشدة، فالسورة، أو مقدمتها على الأقل، نزلت وسط تداعيات إسلامه، ورئيس فريق التفاوض كان عمرو بن هشام، العمر الآخر الذي دعا الرسول أن يعز الإسلام بواحد منهما، والموقف النبوي الصارم الحاسم، ثم الآيات، كل ذلك كان ولا بد قد جعل عمرَ ينفتح إلى الحد الأقصى مع الآيات.

وهناك، وهو في أقصى حالات تفاعله، ستكون هناك آيات معينة لا يمكن أن يمر عليها مَن هو مثل عمر، دون أن تجعله يستخرج منها، من نفسه، كنوزا ً لم تخطر يوماً على بال أحد.

"وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)" (ص 17-25).
ها هو الطين العمري يصب في القالب الذي تقدمه سورة (ص)، السورة التي نزلت "بسبب" تداعيات إسلام عمر.
فكيف لا يقف عمر، الذي يريد أن يعوض شدته السابقة، الذي يريد أن يثبت مصداقية ظن الرسول الكريم به، كيف لا يقف أمام ذلك القالب ويحاول أن يصب نفسه فيه؟!

فلننتبه هنا إلى أن سياق الآيات لم يقل عن سيدنا داود إنه نبي، ونحن نعرف أنه نبي، لكننا نعرف، كما يعرف عمر بن الخطاب جيداً، أن النبوة ليست قالباً يمكننا أن نصب أنفسنا فيه، ليست شيئاً يمكن أن نحاوله.

لكن السياق القرآني يجنبنا كل حرج، فهو يتحدث عن داوود دون أي إشارة إلى نبوته، كما لو أنه يمنح المزيد من التشجيع لمن يمتلك المؤهلات والقدرات على أن يسلك الدرب دون تردد أو وجل.

سيدنا داوود في هذه الآيات هو عبد لله، وهو أيضاً ذو الأيدي، هو يمتلك يدين فقط، مثلنا جميعاً، لكنه يستخدمهما أقصى استخدام، فإذا بها تبدو كما لو كانت "أيد"، وهذا يعني أنه في أقصى الممكن من الفاعلية، في حالة نشاط دائم دؤوب، يد هنا ويد هناك.

ماذا عن تسخير الجبال والطير؟ لم يكن هذا قط من مستلزمات النبوة، ومحمد النبي، بل خاتم الأنبياء، عليه صلاة الله وسلامه، الذي تنزلت عليه هذه الآيات تحديداً، لم يكن يمتلك "تسخير" الجبال له، ولم يكن ذلك قدحاً في نبوته، إنما التسخير يأتي لمن يفهم أسرار الاستخدام، لمن يستطيع أن يستثمر الوسائل ويضعها في سياق مناسب للإفادة منها، سواء كانت دابة، أو طيوراً، أو رياحاً، أو جبالاً، أو أي معدن أو ثروة خام من ثروات باطن الأرض وظاهرها.

ثم تأتي "الحكمة" لتكون عاملاً يشد المُلك ويقويه، كما لو أن الملك يؤدي بطبيعته إلى فقدان التوازن الذي لن يستعاد إلا بالحكمة، كي يشد ويقوى، وتكون الحكمة هنا رديفة لفصل الخطاب، وفصل الخطاب هو الحسم الذي يعرفه عمر ونعرفه عنه، إنه الثبات الذي لا يقبل المساومة، وكونه يأتي مع الحكمة هنا تذكير لنا بأن "الحكمة" لا تعني دوماً ما يشاع عنها من كونها ليونة ومرونة تصل حد تضييع الثوابت.

لا.. الحكمة مع فصل الخطاب هي التوازن الذي يتمسك بالثوابت، ولا يقبل حتى فكرة التفاوض عليها، (فصل الخطاب) يعني ببساطة وجود أمور فيها "حق" واحد، حقيقة واحدة، خطاب واحد، أمور لا تخضع للآراء أو وجهات النظر أو "النسبية"، وهو أمر بالغ الأهمية في مرحلتنا الحالية؛ حيث تتعرض الكثير من الثوابت للتقزيم والتمييع.

(فصل الخطاب) خطوط حمراء نحفظ بها هويتنا وثوابتنا ومرجعيتنا، وعزتنا، ثم تأتي حادثة الخصمين والنعاج لتثير مسألة العدالة الاجتماعية وتقليص الهوة بين الفقراء والأغنياء.

تقول لعمر إن هذه العدالة هي صلب هذا الدين، وكان عمر قد جرب في طفولته شظف العيش وقسوته وعرف تماماً ما معنى أن يستأثر الملأ بكل شيء، وأن يأخذ الفقراء الفتات الذي بالكاد يكفيهم أودهم.

في كل حياته ستكون هذه المحطات شديدة الوضوح في سيرته الشخصية وغير الشخصية، سيرته وهو يبني الحضارة، لكن مع أشخاص مثل عمر لا فرق هناك ولا مسافة بين الشخصي وغير الشخصي، وهذا ما يجعلهم "عظماء" و"مؤثرين" على محيطهم الذي حولهم والعالم الذي يعيشون فيه.

لو أبقينا هذه الآيات في ذهننا ونحن نتابع حياة عمر، ابتداء من هذه اللحظة، وهو لا يزال في مكة قبل الهجرة لوجدناه "يتمثلها" حرفاً حرفاً، لو استطعنا إجراء تحليل حامض نووي (دي إن إيه) لكل فعل أنجزه الخطاب، لوجدنا هذه الآيات في سورة (ص) التي نزلت بعد تداعيات زلزال ولادته كعمر جديد في مكة.

(ذا الأيدي) كان داوود ذا أيدٍ، وعمر كان ذا أيد أيضاً، قائمة منجزاته تبدو أحياناً كالخرافة، من الصعوبة جداً أن تصدق أن زعيماً تاريخياً قد قدم كل ما قدمه عمر في تسع سنوات فقط من حكمه، لكن عمر لم يكن أسطورة، ولم يكن شخصاً خارقاً، بل كان شخصاً اختار أن يضع "طينه" في قالب عبودية عملاقة، قالب داوود ذي الأيدي.

(التسخير) سنرى عمراً يحلق في أسرار الاستخدام، سنراه وهو يبني السدود، يشق القنوات، يحفر الأنهار.

(الحكمة وفصل الخطاب) من الصعب أن نجد موقفاً واحداً لعمر لا تتجلى فيه هذه الصفة، من الصعب أن نجد قائداً عبر التاريخ كان أقرب إلى الحكمة وفصل الخطاب، التمسك بالثوابت، كل الساسة في العالم يعتبرون أن السياسة هي "فن الممكن"، وهم يعبرون بذلك عن تغييرهم المستمر لما يطالبون به، أما عمر فهو صاحب "فصل الخطاب"، صاحب الثبات على المبدأ عندما يكون التنازل عنه "هزيمة" حتى لو انتصرت بمعايير خصومك، فالانتصار يجب أن يكون بمعايير مبادئك وقيمك حتى يكون نصراً حقيقياً.

لكن ما وجه المقارنة بين ساسة فن الممكن وبين عمر؟
لا مقارنة، نظلمهم إذ نضعهم في أي مقارنة، قد تكون السياسة هي فن الممكن، لكن الحضارة هي فن الإيمان بأنه يمكنك أن تبني على ثوابتك بناء شامخاً عزيزاً.
وعمر لم يكن رجل سياسة إلا بقدر ما لا يتعارض ذلك مع كونه رجل حضارة، وكان ذلك في أحيان كثيرة لا يتعارض؛ بل سيرته تثبت أن رجل السياسة في داخله قد انتفع جداً من رجل الحضارة، وأنه قدم وجهاً حضارياً لسياسة شرعية بوجه حضاري.

العدالة الاجتماعية

وحدها هذه يمكن أن تستغرق مجلدات في سيرة عمر، هل نتكلم عن أكياس الدقيق التي يحملها على ظهره، أو على محاسبته لعماله، أو على بائعة اللبن؟

كل منها محطات مضيئة في سيرته، وفي كل منها تجد تلك الآيات التي صبَّ عمر نفسه في قالبها.

"يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى"
علم عمر أن هذا هو الحد الأقصى لما يمكن لإنسان أن يكونه، بعد مقام النبوة الذي ليس مجالاً للتنافس، اختار هذا، وعرف أن الدرب إليه يجب أن يمر بالحكم بالحق، وبعدم اتباع الهوى.

صار عمر "خليفة في الأرض" قبل أن يبايعه أحد بفترة طويلة، صار خليفة، بمعنى أن تكون كل أفعاله محكومة بالحق، أن تكون رؤيته لما حوله محكومة بالحق، وأن يكون في صراع حاد مع الهوى، وهذا ما نجح فيه عمر حتى قبل أن تكون إمارته للمؤمنين أمراً مطروحاً؛ بل حتى قبل وفاته عليه الصلاة والسلام، وقاده إلى أن يكون الخليفة، ربما الأكثر شهرة وتأثيراً، بين كل خلفاء الإسلام؛ بل بين كل زعماء الإنسانية وقادتها ومصلحيها عبر التاريخ.

عندما نختار لحياتنا مسارها، فإننا نختار، دون وعي منا، قالباً ذكر بطريقة أو بأخرى في القرآن الكريم، البعض يختار قالب الخوض مع الخائضين، والبعض يختار قالب "أبي جهل"، قالب "أسفل السافلين"، والبعض يكون مذبذباً، لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، يختار قالب "المنافقين"، والبعض يختار "قالب المخلَّفين"، والبعض يختار قالب "الدواب"، قالب "الأنعام"، بل أضل سبيلاً، قالب "ليتني كنت تراباً".. والبعض مثل عمر يختار قالب صانع الحضارة.. قالب "خليفة في الأرض".

السؤال هو: ماذا تختار أنت؟
على الهامش: لم يكن مصادفة أبداً أن عمر حين فتح بيت المقدس وتقدم في الصلاة، قرأ في آيات سورة (ص) تحديداً، ليست مصادفة أبداً، لقد اختار قالبه، وأوصله، وأوصل العالم معه، إلى الفتح.

من كتاب "استرداد عمر"

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد