من المفيد تماماً أن يدور نقاش مجتمعي حول أي قضية معينة، هذا ومع استغلال المساحة التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي يُصبح النقاش أوسع، ومن المفيد أيضاً أن يدور نقاش بين المثقفين في المجتمع، سواء أولئك الذين يميلون للانحياز للسلطة أو أولئك المنحازون للدفاع عن قيم الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
ولا شكَّ عندي أن الشكل الوحيد المرفوض في أي نقاش مجتمعي هو حظر الأفكار والكتب وحرية الفكر والتعبير وممارسة الرقابة الفكرية على الأعمال الإبداعية.
أذكر أنني قرأت يوماً أن منظمة التحرير الفلسطينية قد قامت بتهديد وممارسة الرقابة على الكاتب الصحفي إلياس خوري؛ لأنه كتب مقالاً استنكر فيه بعض أعمال وقرارات المنظمة وقادتها، علماً أن خوري في ذلك الوقت كان يعمل في مجلة "شؤون فلسطينية"، وهي مجلة تَصدر عن مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، التي كانت ترتكز في بداياتها على خطابٍ نقدي ذاتي للماضي ولبعض الزعماء السياسيين، وأذكر أن كُتب إدوارد سعيد قد حُظرت في فلسطين بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وذلك لموقف سعيد من أوسلو.
فوجئ الشارع الفلسطيني بقرار منع النائب العام الفلسطيني المستشار أحمد براك لتداول رواية "جريمة في رام الله" للروائي الفلسطيني عباد يحيى، ومصادرتها من أماكن البيع في المكتبات في كافة أنحاء فلسطين، في اعتقادي أن السياق الفلسطيني المعقد يُبقي حرية الإنسان وحرية الفكر والعقل والإبداع والنشر فعلاً ناقصاً وغير ممكن في ظل هيمنة احتلالية واستعمارية، ولكن محور نقطتي؛ هي أن هذا الجيل لن يقبل بما قَبِلَتهُ الأجيال السابقة بوجوب خضوع المواطن لإلغاء حقه بحرية التعبير والفكر، وأن يأسر نفسه ويأسر إبداعه الفكري بإرادته، وذلك جُزء من فكرة قائلة إن نضالنا كشعب يوجب علينا طمس مناقشة قضايا تاريخية أو مجتمعية، فرفض الحرية الفكرية هو فعلٌ مؤسس لرفض التحرر، وذلك أمرٌ غير مُجدٍ ولا يؤسس بتاتاً للقضاء على نظام عنصري.
فنفس المشهد بات يؤكد أن الوضع القائم على "الحرية الفلسطينية الممنوعة"؛ إذ يستبدل الاستعمار الفكري والاقتصادي بالتحرر.
ومما لا شك فيه أن المجتمعات لا تخلو من تقييد الفكر وحرية التعبير، فأكثرها حريةً كالولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية تُمارس رقابةً على مثقفيها عند تطرقهم لقضايا كانتقاد الصهيونية، فالنسبية في حرية الفكر والتعبير في مجتمعات الديمقراطية والحرية أتت بفعلٍ نضاليٍ مجتمعيٍ استمر لسنوات طويلة وصل لحد الاشتباك بين الطبقات الاجتماعية، وهذا ما يستدعي بأن تستكمل المجتمعات العربية نضالها لأجل الحرية والحريات.
ولكن ما يقلق في هذا المجال إلى جانب حظر الكتب والأفكار هو وقوف بعض المدافعين عن حقوق الإنسان والحريات في وجه نشر هذه الرواية وتجاوبهم مع شريحة في المجتمع تسعى لفرض رقابة على النشر هي بالأساس غير مقيدة، وهذا للأسف خيار يقصده أولئك دون علمهم بأن مكانتهم تفرض عليهم محاولة الإصلاح، خصوصاً أن حظر ومنع نشر رواية أو كتاب لا يؤدي إلى صناعة فكر.
وما يقلق أيضاً ما نشرته المنظمة العالمية للملكية الفكرية "WIPO"، في تقريرها حول مؤشر الابتكار والإبداع العالمي لعام 2016، الذي يخضع عند قياسه لـ 82 مؤشراً فرعياً، هو أن فلسطين غير مُدرجة على المقياس، ويعزو تقرير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ذلك لعدة أسباب، كعدم وجود نظام متكامل يحمي الإبداع والابتكار، وقلة الوعي بأهمية الإبداع في فلسطين، وضعف الاهتمام الحكومي، وأخرى من الأسباب.
كل ذلك يفرض علينا جميعاً احترام أي عمل أدبي وأكاديمي يساهم في الارتقاء بالتعددية الفكرية واحترام الآخر، ويفرض على المجتمع مواجهة الجمود والتطرف الفكري عند مناقشة قضايا المجتمع وسلوكياته ومشاكله.
بطبيعة الحال ليس من واجب الأدباء أن يُرضوا أحداً، بينما واجب المثقفين والأدباء والنقاد أن يطرحوا أسئلة، وأن ينتقدوا الرواية وفق أسس منهجية، كما يفترض أن يبقى النقاش المجتمعي قائماً على أساس النضال لأجل الحرية الفكرية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.