أمَّة قد خَلت أيتكلم عنها أم يسكت؟!

وأنا أستغرب كيف يبرر البعض بغي مَن بغى بأنه اجتهاد يؤجر عليه صاحبه بأجر؛ لأنه أخطأ، وهذا تبرير ما لا يبرر؛ إذ إن من المعلوم بالضرورة أن أي أحد من الناس، أياً كان، ولا نستثني أحداً بغى على إنسان أو غيره أو اعتدى عليه، فعليه إثم ولو كان من أهل الاجتهاد

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/14 الساعة 01:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/14 الساعة 01:48 بتوقيت غرينتش

"تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون" كثيراً ما نسمع هذه الآية على ألسنة العلماء وطلبة العلم في القنوات والبرامج والدروس الوعظية والخطب الجُمعية، ويستدلون بها في غير ما موضع، وفي غير ما مناسبة، إلا أن الأزمة والمصيبة، والذي يُضحك (بضم الياء) به علينا ويتم استغفالنا به، هو أن هذه الآية الكريمة الجليلة لا يستدل بها هؤلاء المشايخ وطلبة العلم والعوام إلا إذا ذكرت عندهم أخطاء الأمم والأقوام والرجال ممن يعظمونهم ويبجلونهم ويسبحون بحمدهم، فلا يترددون ولا يتأخرون في القول: يا فلان، ألم تسمع قول الله تعالى من سورة البقرة، والتي أكدها بذكره لها في موضعين منها "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون"؟

فيحذّرونك (حذااااارِ) وينبهونك إلى أن مَن تكلم في أخطائهم هم أمة قد خلت، ورجال قد خلوا، فلا حاجة لك في الحديث عن أخطائهم، مع أن الآية لا دلالة فيها البتة حتى يستدل بها على تحريم ذكر أخطاء الشخصيات المقدسة، كما يفعل البعض، إنما خلاصة ما في سياق معنى الآية وما يفهم منها، أن الله -تبارك وتعالى- يخبرنا أننا لن نسأل عن أعمال من قد سبقونا، وكذلك هم فلن يسألهم الله -تبارك وتعالى- عن أعمالنا، فكل يسأل عن عمله، ولا تزر وازرة وزر أخرى، فهذا خلاصة ما في الآية، إلا أن بعض الذين يتلاعبون بأفهام الناس وعقولهم، قصدهم أنه من الأفضل والأصوب والأولى أن لا تتحدث في مصائب وطامات وكوارث مَن قد مضوا من المقدسين وشبه المعصومين مع عدم قدرتهم على قول ذلك،

إذ لا دليل عليه أيضاً، فذكر من مضوا لا نفع فيها ولا فائدة، فجعلوا من الحديث عن أخطاء رجال مَن يحبون، حديثاً لا فائدة منه، في المقابل لا تجدهم ولو مرة إذا ذكرت عندهم أخطاء وكوارث من يكرهون من الذين مضوا وسلفوا، والله وتالله لا تسمع أحدهم يقول ويذكرك بقول الله تعالى: "تلك أمة قد خلت"، كما فعلوا مع مَن يحبون، فالقضية يا إخواني وأخواتي ليست قضية "تلك أمة قد خلت"، القضية أعظم وأشد، وهي قضية موالاة ومعاداة، حب وبغض، فإذا سمعك تذكر أخطاء مَن خلوا من أحبائه يضيق صدره كأنما يصّعد في السماء، فيسارع بذكر الآية،

ولا يفعل ذلك إذا سمعك تذكر أخطاء من يكره، فهو يفرح كثيراً ويسرّ لذكرك أخطاءهم؛ لأنهم مخالفون له؛ لأنهم مبتدعة أو زنادقة أو كفار أو سمّهم ما شئت، فلا بأس من ذكر كوارث هؤلاء؛ لأنهم ليسوا منا ومن فرقتنا ومذهبنا وطائفتنا وعقيدتنا وأيديولوجيتنا وهلم جرّا.

والغريب أن بعض الناس (علماء، طلبة علم، عوام) يحبون بعض الناس (علماء، طلبة علم، عوام) لم يسبق لهم أن التقوا بهم ولا سمعوا صوتهم ولا قرأوا لهم، لماذا يا ترى؟ هنا يأتي الجواب المفاجئ: لأن محبة هؤلاء الناس وكرههم هو حاضر بقوة بموجب تقسيمات، إما عرقية أو طائفية أو مذهبية أو عقائدية، وقبح الله الحب إن كان على هذا الأساس التقسيمي الخبيث الذي لا يورث إلا التبديع والتكفير ثم ينتج عنهما العنف والقتل.

أقول: إن كنتم مستدلين لا بد بقول الله تعالى: "تلك أمة قد خلت" فمن الإنصاف والعدالة حتى لا تجرّحوا وتظلّوا عدولاً، أن تستدلوا بها على كل من يذكر الذين خلوا من قبل، كيف ما كانوا وكيف ما كانت قلوبكم (محبة أو مبغضة)، ويبقى هذا في الأخير غير ممكن؛ لأن ذكر الذين خلوا من قبل من حسن أو قبح فعلهم وسلوكهم من أول الخلق إلى يوم الناس هذا، يعد من التاريخ، وعلم التاريخ يفرض نفسه، وكل العلوم محتاجة إلى التاريخ: تاريخ القرآن، تاريخ السنة، تاريخ الأصول، تاريخ الفقه، تاريخ الأديان، تاريخ الطب، تاريخ الهندسة، تاريخ الكيمياء وغيرها كثير،

وذكر الذين خلوا من قبل هو من تاريخ السير والبلدان والأعلام، وهذا أمر فالج، ومن الناحية العلمية أن لا يذكر تاريخ دون تاريخ، فلا تستدلوا بقول الله تعالى، من سورة البقرة، حسب شهواتكم وأهوائكم ورغباتكم، فهذا ليس من نهج السلف الصالح الذين تتبعونهم، ولا من نهج أهل السنة والجماعة الذين تنتسبون إليها، فكتاب الأعاظم من أهل السنة والجماعة كالذهبي وابن الأثير وابن حجر والطبري وغيرهم ممن كتبوا في التاريخ،

كانوا لا يستثنون أحداً من ذكرهم، فيذكرون قبيحه وحسنه، فكانوا إذا أصاب أحد يقولون أصاب، ولو كان إبليس، وإذا أخطأ أحد يقولون أخطأ ولو كان قديساً، فالقديسون في أي دين من الأديان غير معصومين عن الخطأ وغير معصومين عن البغي والاعتداء، فلا عصمة إلا لأنبياء الله.

وأنا أستغرب كيف يبرر البعض بغي مَن بغى بأنه اجتهاد يؤجر عليه صاحبه بأجر؛ لأنه أخطأ، وهذا تبرير ما لا يبرر؛ إذ إن من المعلوم بالضرورة أن أي أحد من الناس، أياً كان، ولا نستثني أحداً بغى على إنسان أو غيره أو اعتدى عليه، فعليه إثم ولو كان من أهل الاجتهاد، فلا يعد بغيه واعتداؤه اجتهاداً بل يعد بغياً، فالاجتهاد شيء والبغي شيء فلا يجتمعان، فإن اجتهد المجتهد في ما لا بغى فيه أو اعتداء وأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران، وإن بغى فقد خرج عن الاجتهاد، فعليه إثم وذنب، وعليه أن يتوب، الله يقول "غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" أما إن كان باغياً وعادياً فعليه إثم.

قال مجاهد: فمن اضطر غير باغ ولا عاد، قاطعاً للسبيل، أو مفارقاً للأئمة، أو خارجاً في معصية الله، فله الرخصة، ومن خرج باغياً أو عادياً أو في معصية الله فلا رخصة له، وإن اضطر إليه، وكذا روي عن سعيد بن جبير.

وفي الختام أقول: إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها، وذكر ما فعله الأسبقون من حسن وقبيح مهما كانوا هو من الأمانة، وذكر شيء دون شيء خدمة لمصالحكم ورغباتكم من الخيانة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد