هل تتقن "تمسيح الجوخ"؟، سؤال لا بد أن تستهجنه في البداية؛ ذلك لأن شعوبنا العربية تخجل من أن تعترف بجوابه، إلا أننا في المقابل لا نستحيي من تطبيقه على أرض واقعنا، في مؤسساتنا، معاملاتنا، جامعاتنا، ودوائرنا الرسمية، بل في كل ما نقوم به في أيامنا.
ذلك السؤال، وإن بدا حاداً، إلا أنه يُفسّر ذلك التراجع الكبير في التطوّر المؤسساتي لبلادنا العربية، تلك المؤسسات التي تضع خلف مكاتبها الأشخاص، ليس اعتماداً على كفاءة ولا على معدّل جامعي، ولا حتى على أسلوب إداري أو خبرة إدارية جيّدة، كل ما عليك هو أن تتقن مهارة "تمسيح الجوخ" حتى تصل إلى ما ترنو إليه من مناصب ومن مراكز، تدرّب نفسك على كلمات بسيطة تقولها في وجه مديرك في كل يوم، تندرج جميعها تحت مفهوم بسيط، ألا وهو أنه المدير، الرجل الذي لم يخلق الله مثيلاً له في الإدارة، وفي التعامل مع الأمور، تضيف إليها ابتسامة خجولة، ولا بد من نظرة إعجاب كبيرة لما يعطى من مقولات وأفكار سيسطرها التاريخ وسيذكرها العالم أجمع لما فيها من فهمٍ وإبداعٍ وحكمة، ومن بعدها، فهنيئاً لك الوظائف والترقيات والمناصب يا سيدي.
ولكن قبل أن نبالغ ونظلم أنفسنا، هل نحن فعلاً هكذا؟ وهل تسيطر علينا تلك المفاهيم في إدارة مؤسساتنا؟ هل نعتمد نظام "تمسيح الجوخ" فعلاً؟ أم أننا بالعكس تماماً نراعي مبدأ الكفاءة والتميّز والخبرة في اختيار أصحاب القرار لدينا؟
ذات يوم شاهدت على "فيسبوك" شريطاً مصوّراً قصيراً لبرنامج مصري ساخر، يعرض رجلاً يتحدث في محاضرة كبيرة لمبتدئين في العمل من شتى المجالات؛ ليعلمهم المهارات والسبل للوصول إلى طموحاتهم الكبيرة في العمل، وأخذ يحدثهم كيف وصل إلى ما وصل إليه من مناصب، عبر ما سمّاه "النفاق الإداري" من تسمية ابنه البكر على اسم مدير الشركة الأولى، والتبرع بكليته للمدير الآخر في الشركة الثانية، إلى أن وصل به الحال لتغيير فئة دمه بالكامل لفئة دم المدير الثالث؛ ليتبرع له بشكل دائم بالدم نتيجة مرضه المزمن، ذلك الفيديو، وإن بدا ساخراً، إلا أننا نعلم تماماً أن لا شيء يأتي من فراغ، وأن معظم برامجنا التي يتمّ عرضها تعكس واقع المجتمعات وواقع حال الناس وحياتهم، بل إنها تحكي حياة من يشاهد، حتى يشعر أنه مُتقبَّلٌ بالنسبة إليه فيتابعه.
في مثال آخر على أرض الواقع، كنت قد سألت أحدهم منذ فترة: ما سبب أنك تستشير مديرك في كل صغيرة وكبيرة؟! مع أنّ أكثر أعمالك اليومية لا تحتاج إلى استشارة، فهي أمور بديهية في العمل، وما سرّ أنك تتحدث دائماً أمام الجميع وبشكل مبالغ فيه عن مدى ذكاء وفطنة مديرك، وعن حسن إدارته للأمور، مع العلم أن ما يقوم به أمور عادية لا تتطلب كل ذلك المدح وذلك الثناء؟ قال لي: يا صديقي، أمّا عن الاستشارة الدائمة فإن أغلب ما يقوله أعلمه ولا حاجة لي باستشارته، إلا أن ذلك يُشعره أنّي كثير الاهتمام بعملي، وأن رأيه الصائب ونظرته الثاقبة للأمور هي ما يحدث فرقاً في الأعمال،
فيتوهّم دائماً أنني أعمل، وأني مشغول ومهتمّ بالعمل، وأن لديه موظفاً متجانساً معه، ويُنفذّ كل ما يمليه عليه، وأمّا عن المدح الزائد، فإنّ ذلك يُرضي غروره ويعطيه جرعة حماسة لا بأس بها دائماً، فتُفرغ تلك الجرعة عند كتابة تقييمي السنوي الذي يُرفع للإدارة العليا.
هذا كلّه ما لخصه مدير سابق لمؤسسة خليجية ياباني الجنسية، ظهر منذ فترة على شاشة عربية، وقد سُئل عن سبب عدم تقدّم مؤسسات العرب في الإنتاج، وهل تستطيع يوماً أن تصل لأن تضاهي المؤسسات اليابانية في جودة الإنتاج والابتكار؟ ردّ الرجل وبكلّ صراحة بأن العرب شعب عاطفي، يتصرّف مع جميع قراراته بما تمليه عليه عاطفته،
وهل برأيكم للعاطفة غذاء كالمدح والتبجيل والثناء؟ وأضاف الرجل أنهم أناس لا يثقون ببعضهم البعض، وهذا ما يفسر كثرة المؤسسات التي تحكمها العائلات، والمناصب التي يشغلها الأقارب فقط، فهل برأيكم أيضاً أن هناك سبباً أكبر من معرفة تلك المؤسسات للنفاق الذي يغلب على نفوس موظفيها، الأمر الذي يجعلها لا تثق إلا بمن تعلم تماماً صدق إخلاصه للمؤسسة، ومن أصدق من الأهل والأقارب؟!
لذلك كلّه، أصبح جلياً أمامنا أنه لا داعي لنا للاستغراب عندما نرى موظفاً كفئاً في بلادنا العربية لا يتقاضى راتباً يستحق كفاءته، أو موظفاً لا يترفّع في المناصب ولا يترقّى في الرُتب الإدارية مع أحقيته بها، أو موظفاً يُفصل من عمله رغم إخلاصه ووفائه وحرقته على المؤسسة، ولا داعي لنا أيضاً أن نستغرب من وجود مدير لا يفقه في الإدارة شيئاً، وعن موظف راتبه أعلى بكثير من كفاءته، أو مدير يعتمد على الكلام المنقول في فصل أموره الإدارية ما دامت المعايير في مؤسساتنا والتوصيفات الوظيفية والأساليب الإدارية في معالجة الأمور غير واضحة.
لذا يا صديقي حين تجدك نفسك خارج الوظيفة التي أنت فيها اليوم، لا داعي للقلق، ولا داعي للسؤال عن الأسباب، كل ما عليك هو أن تأخذ تلك الأموال التي تسمّى تعويضاً لنهاية الخدمة، وتفتتح بها دكاناً للأدوات المنزلية، ولا تنسَ أن تتعلم من خطئك الذي أودى بك خارج المؤسسة، حاول أن تتقن نظرية تمسيح الجوخ، أخبر كل تاجر تتعامل معه أنه أفضل من باع وسوَّق وحمل علبة بلاستيكية على وجه المستديرة، علّ ذلك ينفع في تأجيل بعض الفواتير المستحقة يوماً ما.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.