هل تعرفون الاشتياق يا سادة؟ هل تعرفون معناه؟ الاشتياق كالظمأ حينما يعتري الإنسان في صحراء.. ويسيطر عليه هذا الهاجس حتى يرى كل ما حوله ماء.. ولا يسيل لعابه من ذلك فقد جف الماء أصلاً في بدنه..
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ** ولا الصبابة إلا من يعانيها
لا يسهر الليل إلا من به ألم ** لا تحرق النار إلا رجل واطيها
هكذا قال، وهذه الحقيقة!!
روح المغترب خارج بلاده روح مختلفة، ونفسيته أيضاً تطرأ عليها كثير من التغيرات التي لم تكن لتحدث لو لم يخرج من بلاده.
هو سعيد على الحقيقة؛ لأنه خرج من ضيق إلى فرج وسعة، فرِح بما يلاقيه حوله من نِعمٍ افتقدها في حياته، يستمتع بها ويرى الآخرون أثر ذلك عليه، لكنه في الحقيقة يكون هارباً من خاطرٍ قاسٍ وشعورٍ جبارٍ، يهرب منه على الدوام، لا يريد التفكير فيه؛ لأنه لو فكَّر فيه سيسقط جزء من جسده على التو.
هذا الهاجس يكون دافعه الاشتياق، ومادة الاشتياق مادة غريبة.
يشتاق ويشتاقون.. يشتاق المرء إلى أمه ذلك الطود الشامخ.. فكل صالح يرى أمه جبلاً ليس له مثيل.. يشتاق إلى حديثها جده وهزله.. يشتاق إلى تبكيتها وتنكيتها.. يكبر المرء فينا ويذهب ويأتي.. وهو كل ما كبر يصغر في عين أمه.. لا تزال تراه أمه ذلك الصغير.. يشتاق إلى تلك الأحاديث.. أحاديث البطولات التي لا تنتهي.. تسردها الأم وهي مفتخرة ولا تمل.. يشتاق إلى حديثها عن الولادة والتربية والمشقة التي وجدتها.. نحن لا نفعل شيئاً.. نحن وجدنا كل شيء سهلاً.. نحن ليس عندنا ما عندهم من التحمل.. هكذا تقول دائما.. وهي محقة.
يشتاق المرء منا إلى العائلة.. العائلة ذلك الجو الذي يفتقده المغترب.. الإخوة واجتماعهم الأسبوعي.. الشجار.. الجدال الحاد.. الصوت العالي والضوضاء.. شجار أطفال العائلة بينهم وبين بعض.. ومجيئهم لك للشكوى.. جلستك جلسة المستمع والمناقش بينهم.. اشتياق.
يشتاق المرء إلى الأصدقاء.. العمل القديم.. فالعمل هو زوجتك الثانية التي تتزوجها دون اعتراض الزوجة والمجتمع.. بل بترحيب منهما.. وزماننا مقسم بين أسرتنا وعملنا، بل يطغى العمل في أحايين كثيرة على نصيب أسرتك الخاصة؛ لذا العمل مجتمع آخر.. أسرة أخرى.. إخوة أُخَر.. عِشرة كما نقول.. وعيش وملح كما نقول أيضاً، ونقول: إن "العيش والملح لا يهون إلا على ابن الحرام"، وأمثالنا العامية هي حكم بليغة ممتلئة بالدروس والعبر.
فيشتاق المرء إلى إخوة العيش والملح، فكم قضينا سنوات معاً، وعرف بعضنا بعضاً في الحزن والفرح.. في الغضب والرضا.. في الحب والكره.. كل موقف يمرُّ عليَّ هو موقف صاحبي من قبل.. شاهدته أنا.
أشتاق إلى أولئك الإخوة، حتى الذين طرأ بيننا طارئ، فغير المودَّة وعكَّر الصفو، أقول في نفسي: لو أن ذلك لم يحدث لكنا كما كنا من قبل كالأيام الأولى، أقول لها: ماذا لو ألقى إليّ بالسلام، أقول أيضاً: أنا سألقي إليه به، لكن يا ترى كيف سيقابل هذا منّي؟!
أشتاق إلى الحي، المسجد الذي كنت تصلي فيه، والبائع الذي تشتري منه، ورجال الحي الذين كبرت معهم.
هذا هو الاشتياق، وهذا ما يعتري المغترب، لكن الأصعب أن هذا يبقى هكذا معلقاً.. لماذا؟!
لأنه يصطدم ببقية المشهد مع الأسف، يصطدم ببلاده التي أصبحت.. أصبحت ماذا؟!
لا أجد كلمة مناسبة لوصفها على الحقيقة..
يردد المغترب دائماً جملاً بسيطة، منها مثلا "كلنا نحب بلادنا"، ومنها "لو أن بلادنا كانت جيدة ما خرجنا"، ومنها "بلادنا فيها كل شيء لكن للأسف".
هذا ما لا يشتاق إليه المغترب على الحقيقة، يصطدم بحائطٍ كبير، هو يعرفه وقد خبره سنين؛ لذا يفضِّل دائماً عدم الاقتراب منه، كما تقول عاميتنا الجميلة "يا نحلة لا تقرصيني ولا عايز عسلك"، أو "الباب اللي يجيلك منه ريح سده واستريح"، لقد استراح فلا يريد لنفسه ما كان يعانيه قديماً.
كأنك تقول: فسد المقال بالفقرات الأخيرة، وفسدت مادة الاشتياق بما كتب، ما بقي من الاشتياق بعد ما كتب؟.. إن ما كتب هو قاضٍ عليه ومُتلفٍ له.
لكني أقول لك صدقاً غير مبالغ ولا مجامل:
ما فسدت مادة الاشتياق لكنها بقيت هكذا، تصارع كل ما سبق، وتبقى معلقة ليس لها علاج.
فنحن أبناء هذا الزمان كتب علينا هذا، فالصبر والسلوان!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.