كتب لي صديق عتيق من منفاه الألماني: " ستظل تبحث عن وطن"، أربع كلمات احتكرت النوم وصادرته وزرعت السهاد في عينيَّ أمس، وفتحت الأبواب لتفاصيل نصف قرنٍ من عمرٍ مرَّ كأنه رحلة بحث لمتصوف في صحراء الروح عن ماهية ما حدث لنا خلال نصف قرنٍ حتى بلغنا الهزيع الأخير، ومفهوم الوطن لا يزال متأرجحاً في ضمائرنا، نقبض عليه كجمرٍ مشتعل فيفرُّ من بين أصابعنا كعصفورٍ يرفض الأقفاص، ويعشق الأجنحة.
من منافينا البعيدة والجميلة والقسرية نعيد ترتيب ما حدث بلا جدوى…
ربما كان علينا أن نقول "لا" في أزمنة القهر والصمت، ونصرخ في وجه من سرق سماء البلد وحقولها، لكننا كنا أجبن من أن نفعل ذلك، مستمرِئين حياتنا الرتيبة لنمنح الطغاة شرعية لا يستحقونها.
ربما كان علينا أن نرفض المحاصصة الطائفية التي حكمت البلد عقوداً من الزمن، ووزعت صكوك الوطنية على من لا يستحق، وحرمت الأجدر لأنه أراد أن يكون مواطناً، وأرادوه عنصراً في أقلية أو طائفة.
ربما كان علينا تحطيم قيود الطائفية والمذهبية، لكننا اصطدمنا بالفكر الأقلوي، والتعامل الأقلوي، فتشرذمت (الأقليات) التي أرادوا لها ألا تكون جزءاً من الدولة الوطنية، والتي هي بالنتيجة تم تغييبها واغتيالها؛ لأن وجودها وتجذّرها يكشفان عورات كل الأفكار والمعتقدات العشائرية والطائفية والمذهبية، والتي كانت لهم ملاذ من التماع الحرية والأمل في العيون.
ربما كان علينا أن نكتشف مبكراً أننا خُدِعنا بمن كانوا يدّعون أنهم ونحن "شركاء في الوطن"، لكنهم كانوا "شركاء في الخراب"، والتهجير القسري والقتل والذبح والتخوين والإقصاء، ومارسوا كل أنواع الفرز الطائفي؛ لأنه في قلب هذه الأجندات القذرة يكمن بقاؤهم واستمرارهم.
وتقول لي يا صديقي: "ستظل تبحث عن وطن"!
نعم، سأبقى أبحث عن وطن يعيد لي ملامحي التي تهشمت، ويمنحني حق المواطَنة؛ لأنني أستحقها.
نعم، سأبقى أبحث عن وطن بلا أقليات بعد أن أصبح الجميع في بلدي أقلية ليس إلا، وبعد أن هبّت رياح الحقد على الأقليات لتذريها أثراً بعد عين.
نعم، كان علينا أن نكون شجعاناً لندافع عن أطفال الوطن، وأن نكون حاذقين أكثر لنكتشف خديعتنا مبكراً، وأن نكون صادقين أكثر مع ذواتنا ونحن نحصي فائض التثاؤب في منافينا الكئيبة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.