هذه قصَّتي

تنقطع أنفاسي من الإثارة واللهفة حين رأيتها تلوّح لي بيدها من خلف زجاج المقهى؛ حيث اتفقنا على اللقاء، وما هي إلّا لحظات حتى كنتُ أصافحها ويغمرني شذا عطرها السحري ونظراتها المليئة بالكلام.

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/09 الساعة 01:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/09 الساعة 01:18 بتوقيت غرينتش

لكل امرأة قصّة، ولياسمينة التي ظهرتْ أمامي من العدم قصّة، كنتُ قد خسرتُ حبيبتي قبل أسابيع قليلة من لقائي بياسمينة لأوّل مرّة، كانت اكتمال الأنثى البهي، وكنتُ مجرّد حطام لرجل تجاوز الثلاثين.

حدث ذلك حين كنت في المصعد الكهربائي لإحدى المؤسّسات الحكومية التي قصدتُها بهدف توقيع بعض الأوراق، رأيتها تطفو هناك فوق بلاط البهو المزركش، ووجدتُني أحدّث نفسي دون انتباه: يا لَلجمال! يا للجمال! من تحت إبطها الأيمن ظهرت حقيبة جلدية منتفخة تكاد تتساقط منها الأوراق، فتداري سقوطها بيسراها بالتناوب مع حركة سريعة تلملم فيها خصلات شعرها المتطاير بفعل حركاتها، مخترقة هواء هذا الفضاء الحكومي الرصين! الهواء الذي تهيأ لي أن نسماته لفحت وجهي، حاملة معها رائحة عطر أنثويّ لمستْ مفاتيح قلبي الحزين، وعزفت فيه موسيقى الشغف من جديد.

بإيماءة لطيفة كتلك التي نراها في العرض البطيء لبعض اللقطات في الأفلام الغربية أشارت لي بأن أوقف المصعد محركةً شفتيها بما لم أفهمه، في حين كان الباب ينزلق أمامي بهدوء، طارداً الضوء من المكان، ومعه احتمال مشاركتي هذا الحيز الضيّق مع امرأة غريبة كحلم جميل في ساعات الفجر الأولى قبل شروق الشّمس بقليل.

في تلك اللحظة انتابتني رغبة غير مفهومة للتصرّف على غير ما أريد، وترك الباب ينهي مشواره ليفصلني عن هذا الكائن الجميل، الذي بدأت تظهر على محيّاه علامات اليأس والإحباط.

غريب أمر العقل! كيف يعمل؟ ما هو سرّه؟ لماذا نشعر به أحياناً كأنّه مستقلّ عنّ ذواتنا يفرض علينا أوامره فننفذّها دون اعتراض أو دون فهم؟ سنتيمترات قليلة كانت تفصل الباب عن الإغلاق التام، وكنت لا أزال في حالة الجمود، ومن خلال الشقّ الذي ضاقَ أكثر وأكثر لمحتُ شفتيها الراجيتين: إذا بتريد.. الكلمتان اللتان حرّرتا إرادتي فمددتُ يدي بحركة آلية وضغطت أحد الأزرار،

توقف الباب ثمّ انزلق بهدوء عائداً إلى مستقرّه، ما أعطى الكائن الجميل الوقت الكافي للوصول والارتماء داخله مع كلمة شكراً، مختلطة باللهاث، رددتُ عليها همساً: العفو، وعرفتُ فيما بعد أنها لم تسمعْها، فأضافتْ مازحة وهي تضغط زر الطابق العاشر: ظننتك تمثالاً. ابتسمتُ هذه المرّة بوضوح وأجبتها: لا أحبّ التماثيل.

هزّت رأسها هزّةً خفيفةً وهي تقول: معك حق، ثمّ انتهى الحوار، كنّا وحيدين في المصعد الذي انطلق بنا وتوقّف بعد ثوانٍ في الطابق الثالث؛ حيث من المفترض أن أغادره، فلم أفعل وبقيتُ واقفاً مع عدّة شياطين صغيرة خرجت من مساماتي وبدأت تدغدغني بخبث، فرحتُ أصلّي كي يتعطّل المصعد ونعلق فيه لساعات؛ بل قل لأيّام.

لكنّ دعواتي ذهبت أدراج الرياح، وانطلقَ من جديد ليضيء بعد ثوانٍ الرقم 10 في لوحة مفاتيحه، وليخرج الكائن الجميل مع شياطيني المقهورة التي تبعته حتى غاب خلف باب قريب.

للحظات شعرت بالنشوة وأنا أتنشّق رائحة العطر التي خلّفتها ونسيت ماذا أفعل في هذا المكان، ما الذي جاء بي إلى هنا؟ ماذا أريد؟ لكنّ الواقع اللعين لا يتركك؛ فتسمع صوت أجراس تُقرع في رأسك لتوقظك من الحلم وتعود إنساناً من لحم وهمّ، ثمّ تتنهّد بعمق قبل أن ترمي بنفسك إلى نهر الصخب والواجبات.

أنهيتُ عملي خلال نصف ساعة، وقبل خروجي من المبنى شاءت المصادفات أن ألتقيها ثانية، كما تمنيتُ، وهذا لا يحصل معي عادة، وجدتُها تتقدّم نحوي مع ابتسامة جعلتني أحسد نفسي، انتظرتها إلى أن حاذتني، وقلت: هناك من يبتسم لتمثال، فأجابتني بعفوية: إن كان ناطقاً؛ لِمَ لا؟! بعد حديث قصير عن الأوراق والتواقيع والرشاوى والفساد عرّفتها بنفسي وعرفتُ أنها ياسمينة المحامية التي تدافع عن الحق أينما كان، وقبل أن نفترق تجرأتُ وطلبتُ رقم جوّالها وكانت سعادتي لا توصف حين قالت بعد تردد بسيط: لكن عدني ألّا تتصل بي قبل أسبوع من الآن، فوافقتُ ولم أسأل عن الأسباب،

بعد أسبوع بالتمام والكمال اتّصلتُ بياسمينة، وكانت على الطرف الآخر بصوتها الشجي الذي سحرني وجعلني أتلعثم ولا أعرف ماذا أقول، وأكاد أقسم أنني شممتُ رائحة عطرها عبر سماعة الجوّال، بعد عدّة كلمات مرتبكة من كلانا اتفقنا على موعد، وها أنا تكاد تنقطع أنفاسي من الإثارة واللهفة حين رأيتها تلوّح لي بيدها من خلف زجاج المقهى؛ حيث اتفقنا على اللقاء، وما هي إلّا لحظات حتى كنتُ أصافحها ويغمرني شذا عطرها السحري ونظراتها المليئة بالكلام.

لا يُخلقُ الإنسانُ لحظة لقائنا به، انظروا كم هو بديهي هذا الكلام! لكن رغم ذلك هناك من لا ينتبه إلى هذه البداهة وينظر إلى الآخر على أنه ابن اللحظة، ويبدأ بإعطاء المواعظ والدروس والعِبر وغالباً يحلّق في الحديث عن المبادئ والأخلاق وعن كلّ ما يجول فيه خاطره من محاسن الكلام، وهذا ليس عيباً في حد ذاته، لكنّ في ذلك الكثير من عدم الاحترام لذكاء وتجربة من يجلس قبالتنا.

وأحمد الله أنني لستُ من هذا النوع؛ لذا بمجرّد جلوسنا وبعد أخذ رشفة من فنجان القهوة الذي وجدته بانتظاري على الطاولة، قلت: من منّا سيبدأ الكلام؟ صحيح أنها بداية مباشرة وغير رومانسية لكن الطريقة والتعابير وطبقة الصوت والنظرات أي باختصار، الأسلوب يعطي الكلمات أبعاداً أخرى، ولو ترجمتُ جملتي بناء على ما سبق لصار معناها: ضعي يدكِ في يدي ودعينا نبتعد عن هذا المكان، أو: عندي رغبة لقضاء الكثير من الوقت معاً، أو: انظري كم أنا مرتاح معكِ.

لم تتردّد ياسمينة ولم تتأخر، ابدأ أنت، قالتها ومدّت يدها مدّعية أنها تحمل "ميكروفون"، جاريتها في اللعبة وسألتها وأنا أشعل سيجارة وأقدّم لها واحدة مثلها: من أين؟ من لحظة تكوينك في رحم أمّك. قالت ضاحكة قبل أن تضيف: لا أدخّن، لكنها أخذت السيجارة ووضعتها بين شفتيها بطريقة توحي أنها مدخّنة من الطراز الرفيع، لاحظتْ نظراتي المستفهمة فأجابتني: تركتُ التدخين قبل سنة من الآن، فصل بيننا جدار من الصمت للحظات ملأه دخان سيجارتي ونظراتي الحائرة: من أين سأبدأ؟ لكن ياسمينة قدّمت لي العون وسألتني: هل تتحرّش دائماً بالنساء؟ صدمني سؤالها! لكنني اخترت الابتعاد عن الجديّة وقلت: ماذا أفعل؟! هذا طبع التماثيل، انفجرت ضاحكة وهي تقول: دعنا من المناكفات، واحكِ لي عن نفسك، فتنحنحتُ وسوّيتُ جلستي ثم بدأتُ الكلام:

أنا ابن الريف الجميل، ابن الغابة والنهر والسهل الممتد من شاطئ البحر إلى أطراف الجبال السامقة، ولدتُ في حقلِ قمحٍ فوق سنابل الحنطة الذهبية وشاركتُ عصافير الدوري ماء النبع المتفجّر من أطراف حقلنا، تنشّقتُ عبير زهرة الخزامى قبل أن أعرف اسمها ورضعتُ من أثداء عنزتنا جنباً إلى جنب مع جِدائِها، لعبتُ في زواريب القرية وزرعتُ أمام بيتنا أرزّاً وسكّراً وشاياً، وضحك من زراعتي هذه أهلي وكل من سمع بهذا الفعل.

تعلّقتُ بأمي ونمت في حضنها إلى أن تجاوزتُ الخامسة عشرة من العمر وحفظت رائحتها وتغلغلت في مسامات جلدي وما زلت أشمّها إلى اليوم، ساعدتُ ذات مرّة قطّتنا "بيسة" في ولادتها وسحبت من فرجها جراءها الملطّخة بالدماء بيدي، وأطلقت عليها أسماء غريبة: "كيرو" و"بينو" و"سيسون" و"عمقيق" ثم نسيتها في اليوم التالي وصرت أنادي عليها كلّها "بست"، قتلتُ كلباً صغيراً بطلقة بندقية دون قصد، وندمتُ أشد الندم فيما بعد، تعلّمتُ السباحة في النهر بعد أن جرّبتُ الغرق فيه، مشيتُ في الجبال دون هدف، لمجرّد المشي وتعلّمتُ من الحيوانات أن الحياة أبسط مما نظن، ثمّ انتقلتُ إلى زواريب المدينة وساحاتها، حفرتُ اسمي فوق مقاعد الدرس ودهنتُ كفيّ بدم السحالي كي لا أتألم حين أتلقّى ضربات العصا من معلّمتي الخرقاء،

قفزت عن أسوار مدرستي ولويتُ كاحلي ذات مرّة، ثم كسرتُ يدي وأن أتسلّق شجرة تين، وقبل أن أشفى صدمتني دراجة ناريّة وكدتُ لولا الحظ أفارق الحياة، سقطتُ عن سطح بيتنا وفججتُ رأسي ولا تزال آثار القطب ظاهرة إلى اليوم أشبه بجنازير دبابة فوق الأسفلت، سرقتُ من دكّان جارنا بعض قطع البسكويت بتشجيع من الرفاق ولم أتذوق طعمها خوفاً من العقاب الإلهي! كذلك سرقتُ مرّة سيجارة من درج أبي ودخّنتها في الخزانة وكدت أختنق بعد أن تسببتُ بحريق صغير استطعتُ إطفاءه بعد أن كاد يقتلني الرعب، عشقتُ القراءة، قرأتُ كلّ ما وقع بين يديّ حتّى كتب الدين قرأتها، كتبتُ الشعر وأخفقتُ بالتعبير عمّا أريد فتركته وكتبتُ أشياء أعجب اليوم أنني كتبتها، أحببتُ ابنة الجيران،

ثم أحببتُ السينما، ثمّ عدتُ وأحببتُ ابنة الجيران الأخرى وتعلمنا معاً ماذا يعني الجسد وتعلمنا أن لا معنى للعيب، خدمتُ لسنوات علم البلاد، ثمّ عدتُ إلى دياري وخدمتُ حبّي للحياة، فعشقتُ رفيقتي في العمل وعشنا معاً أيّاماً ولا أحلى إلى أن فرّقنا عقل أهلها الطائفي، هدّدوها بالذبح إن ارتبطت بي، وكنتُ ضعيفاً لا حول لي ولا قوّة فخذلتها وبكيت. عشتُ أياماً جميلة وأخرى صعبة، ثمّ التقيتُ بـ(أروى) التي نفرتْ منّي حين عرفت أنني لا أقيم وزناً للدين، لكنها أقسمت أنها أحبتني أكثر من أي أحد آخر، ووعدت أنها ستبقى تحبني حتّى آخر العمر، بعدها جاءتْ (دينيز) الرائعة فعشقتها حتّى الموت وكانت المرأة الوحيدة التي طبعتُ قبلة فوق كل "سنتيمتر" من جسدها الشهي وكنتُ أضع علامة "سمايلي" بقلم حبر أسود أين وصلت، وخلال أربع جلسات أنهيتُ الأمر. أحبّتني هي كما أحببتها لكنها لم تملك الجنون الكافي لتقابلني بالمثل،

وكانت تضحك كلّما عرضتُ عليها ذلك وتقول: لستُ مجنونة مثلك، وكدنا ندخل في مشروع خطبة وزواج، لكن الحرب حملتها مع أهلها إلى البعيد، وبقيتُ وحيداً كقمرٍ في سماء صحراء أو إن أحببتِ كملعقة شاي صغيرة في بطن تمساح مريض! ثم وجدتُ نفسي في ذلك المصعد وأنتِ هناك فراشة جميلة اقتحمتْ حياتي دون دعوة، ثم حدّثتها عن مشاعري حين رأيتها أوّل مرّة وبماذا فكّرت، وإذ بالدموع تترقرق في عينيها، فأنهيتُ حديثي بأن قلت: وها أنا اليوم أجلس قبالتك أراقب الدموع تطفر من عينيكِ الجميلتين وها أمدّ يدي، أرجوكِ اتركيني أمسحها، ولم تمانع، فمددتُ يدي بالفعل لتلامس بشرتها الحريرية ثم سحبت أصابعي المبللة وقرّبتها من شفتيّ وتذوقتها وأنا مغمض العينين أتلذّذ لأوّل مرّة في حياتي بطعم الملح الأنثوي، احتقنتْ عينا ياسمينة بالدموع أكثر وظهرتْ على قسمات وجهها علامات الأسى فعضّت على شفتها السفلى وهزّت رأسها بهدوء وهي تنظر إليّ نظرات عتب ولوم، ثمّ غطّت وجهها بكفيها وبدأت تشهق.

شعرت بالذنب وفكّرتُ بالاعتذار، لكن لم أعرف عن أي شيء سأعتذر؟! هل أعتذر عن مشاعري، أم عن حديثي الذي أثار شجونها؟ هل أخطأتُ في فهمي لما يحصل بيننا؟ وإن كنتُ على خطأ حقّاً فأين أخطأت؟ وإن كان الأمر كذلك هل أنا من يتحمّل مسؤولية هذا الخطأ؟ ولكن ما الذي حصل؟! لم أفهم لماذا تبكي امرأة من حديث كهذا؟! كان سرداً بسيطاً لحياة عشتها وأخرى لم أعشها، كان كلاماً في مهب الريح قلته لأجذب انتباهها وكنت صادقاً في كل حرف فيه، وعندما لم أجد جواباً على تساؤلاتي قررتُ الصمت وإعطاءها الفرصة للتعامل مع الوضع.. هكذا؛

حتّى رفعت رأسها أخيراً ومسحت دموعها بمنديل ورقي أخرجته من حقيبتها ثم وضعت السيجارة التي قدمتُها لها منذ قليل بين شفتيها وقالت: أشعلها، مددتُ يدي بالولّاعة وأخذتْ ألسنة اللهب تأكل مقدمة السيجارة فمجّت منها مجّة عميقة ثم نفثت دخانها في وجهي قائلة بغصّة: أنت مجرم، أحببتُ العودة إلى المزاح في محاولة للخروج من هذا الجو الحزين فقلت: والآن حان دورك لتكوني مجرمة أنتِ أيضاً، لكنها بقيت صامتة وفي عينيها بقايا الدمع، كانت تحدّق بي كمن يحدّق بشخصٍ يعرفه ولكن لا يتذكّر اسمه أو درجة معرفته له، قطعتُ عليها تأملاتها وقلت: جميلة هي الحياة، انظري كيف نجلس هكذا بكل بساطة ونتكلّم كصديقين، قاطعتني بصوتها المبحوح مردّدة: كصديقين؟ قلت: من يرانا لن يخطر في باله أننا نلتقي لأوّل مرّة،

فأجابتني: هل تصدّق! أنا أيضاً أشعر أنها ليست المرّة الأولى، ثم سألتني بكامل الجديّة: هل التقينا قبل اليوم؟ هل تظنين أننا التقينا؟ سألتها بدوري، فردّتْ: أكاد أجزم أننا التقينا، هل تحبين ذلك؟ سألتها. أجابت: ما هو؟ قلت: أن نكون التقينا، قالت: لا أعلم، ما أعرفه أنني الآن مضطربة بطريقة لم أعهدها من قبل، ثم استرسلت في الكلام:

عندما خرجتُ من بيتي في ذلك اليوم لم يخطر في بالي أنني سألتقي أحداً يؤثّر عليّ ببضع كلمات سخيفة ويجعلني أقدّم له رقم جوّالي بكلّ خفّة! أنا محامية كما تعلم وعندي مناعة ضد الكلمات ولطالما وقفتُ أمام القضاة والمتّهمين ومحامي الدفاع وبارزتهم كلمة بكلمة وحرفاً بحرف، كنتُ أعتقد أنني محصّنة في هذا المجال، لكنّ يا لَلغرابة ها أنا أقع تحت تأثير كلمات قليلة خرجت من فم "تمثال" في مصعد صغير تقارب مساحته مساحة قفص من تلك الأقفاص التي نراها في حدائق الحيوانات، هللتُ للفكرة وتذكّرتُ أمنيتي في أن يتعطّل المصعد وأعلق معها هناك.

ثمّ تخيلتني أسداً هصوراً يُحبس في قفص مع غزالة تحبّ المزاح، أي سعادة، قلت لنفسي وابتسامتي تتّسع لتلفت انتباهها وتسألني: لماذا تبتسم؟ فذكرت لها ما فكّرتُ به، ابتسمت بدورها وقالتْ متأسّفة: لم أفكّر حينها سوى في الوصول إلى مكتب الموظف الذي أقصده قبل خروجه، أو بالأحرى قبل هروبه من مكتبه، فتلك كانت المرّة الرابعة التي أقصده فيها ولا أراه، وفي كل مرّة كانوا يقولون لي: سيعود بعد قليل.. ولا يعود؛ لذا كنتُ في عجلة من أمري؛ لأنّني عرفتُ من زميلته التي التقيت بها في الطريق أنه في المكتب وقد يختفي في أي لحظة كالمعتاد، هكذا وجدتُ نفسي أركض وأسابق الدقائق وذلك المصعد الذي تحوّل بالنسبة لي إلى زورق نجاة لن أصل إليه، كم كرهتك في تلك اللحظة وأنت واقف تحدّق بي كالأهبل،

وكم شعرت بالامتنان حين رأيت باب المصعد يفتح من جديد بعد أن كاد يغلق بالتمام، لم أسمعك تجيب على كلمة شكراً التي خرجت من فمي بصعوبة وقلتُ في سرّي: قليل أدب أيضاً، وأحببتُ أن أخزكَ في خاصرتك عقاباً لك فوصفتك بالتمثال ولفت انتباهي جوابك الذكي، فأنا أحبّ الأذكياء، شعرتُ بالإطراء فقاطعتها قائلاً: لستُ ذكياً ولكنّ جمالك جعل التمثال ينطق، هزّت رأسها وهرستْ سيجارتها في المنفضة قبل أن تنهيها، ثم شربت الرشفة الأخيرة من فنجان قهوتها وبدا عليها أنها تتحضّر للانصراف، لم أفهم ماذا حصل، لقد جلسنا للتو! خفق قلبي بسرعة واحترت ماذا أفعل كي أبقيها لفترة أطول، فأنا لم أسمع قصّتها بعد، قلت: لم أسمع قصّتك، فأجابتني: لا قصّة لديّ، قلت: هذه خيانة، تغيّرت ملامح وجهها فجأةً ونظرت إليّ مستاءة وبقيتْ تحدّق بي وبالمكان حولنا قبل أن تتراجع عن قرارها وتستقرّ فوق كرسيّها ثم تطالبني بسيجارة بإشارة خفيفة من يدها فهمتها على الفور، قدمت لها السيجارة وحمدت الله على نجاحي باستبقائها، لكنها فاجأتني وقد بدأت البكاء من جديد، لكنه كان بكاءً من نوع آخر غير الذي رأيته قبل دقائق،

بكاء هادئاً صامتاً رزيناً؛ حتّى إنها لم تكلّف نفسها مسح الدموع عن خديها كذلك أنا لم أفعل وعرفتُ بغريزتي أنّ تصرفاً كهذا الآن قد يكلّفني صفعة أو صراخاً يلفت الأنظار، كانت تبكي وتدخّن وتنظر في عينيّ مباشرة فشعرتُ أنّها تخترق جمجمتي وتدخل إلى دماغي لتفتّش عن أي فكرة سيئة أو نوايا لئيمة تبيح لها طعني بسكين تخرجها من حقيبتها على حين غرّة أو ترديني بطلقة من مسدس خبأته في جيب سترتها المرمية على الكرسي القريب، شعرت بالخوف، شعرت أنني مهدد بطريقة ما، لا أعلم لماذا خطر كل هذا في بالي وأنا جالس أمامها محاولاً الهروب من نظراتها التي عشقتها في أوّل الأمر، لم أعرف كيف يجب عليّ أن أتصرّف! وبدأت أشعر بالندم: لماذا لم أتركها تذهب؟ لماذا استبقيتها؟ هل هي مجنونة؟ هل يمكن أن تتصرّف بطريقة هستيريّة تجعلنا فرجة للناس؟ كانت دموعها تتساقط فوق صدرها وتبلل بلوزتها الحمراء المخرّمة عند قبّتها الدائرية مخفية طوقاً ذهبياً انسلّ عميقاً بعيداً عن ناظريّ، عجبتُ من كميّة الدموع ومن هدوئها الرهيب ومن نظراتها الثاقبة،

عجبتُ من نفسي كيف تحولتُ إلى فأر مذعور أمام مخالب قطّة تتريّث لالتقاط فريستها وترمي في قلبها الرعب، هكذا تبادلنا الأدوار، فمنذ أسبوع فقط كنتُ الأسد الهصور وكانت الغزالة الغافلة في ذلك الصندوق الحديدي الصغير، ما الذي حصل يا ياسمينة الجميلة؟ ما هو المفتاح الذي ضغطتُ عليه بغير قصد؟ ماذا تقول دموعك؟ كيف عليّ فهم ما تقول؟ مضت عدّة دقائق ظننتها ساعات وأنا صامتٌ أراقب عينيها الحزينتين اللتين لم تتوقفا عن ذرف الدمع، احترمتُ ضعفها، احترمت أنها بكت في حضوري ولا أعلم لماذا اعتبرته امتيازاً، احترمتُ ذاكرتها التي لا بدّ فرضت نفسها عليها في هذه اللحظات، ومن منّا لا تفاجئه ذاكرته بحوادث وقصص يظنّ أنه نسيها فيأتي حدث ما لينفض الغبار عنها ويفتح لها باباً أغلق منذ زمن بعيد، كانت ياسمينة مستمرة في البكاء الصامت بينما أخاطب نفسي بهذه الطريقة عندما تنهّدتْ فجأة بعمق فبدا صوت تنهيدتها كصوت مسمار أمان سُحب من رمانة يدوية قبل أن تُرمى على العدو استعداداً للهجوم أو للتغطية على انسحاب وشيك من أرض المعركة تحسباً لطلقات الغدر،

ودون طويل تفكير هيأتُ نفسي لتقبّل أي تصرّف قد يبدر منها، ليس هذا فقط بل وجدتني منذ اللحظة أغفر لها وأسامحها مهما حصل، على هذا الأساس جلستُ وانتظرت ولم يطُل انتظاري، فما هي إلّا لحظات من الصمت والتوتّر الذي بدا جليّاً في حركات يديها ولفتاتها يمنة ويسرة حتّى قالت بصوتٍ مكسور كاد يبكيني: هذه قصّتي؛ هل فهمت؟ ثم أضافت وهي تلملم أغراضها بعجالة وسط دهشتي: يجب أن أذهب، فزوجي وطفلي ينتظراني في البيت.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد