دخل إلى محطة القطار لاهثاً، أغلق مظلته، تنحنح بصوت منخفض، ثم مسح بقايا المطر عن أطراف أكتافه بأصابعه الباردة، استدار بوجهه يميناً ويساراً كمن يبحث عن ظله بين الأضواء المتحركة، ثم أحسّ فجأة بنفحة دافئة، تبعها لعلها توصله لمصدر الدفء، كان قد مشى مسافة طويلة تحت تلك العاصفة وتسرب البرد إلى أطرافه، حتى ابتلّ الجزء السفلي من سرواله من كثرة عدد السيارات التي قذفته بمياه الشوارع حين كان يحاول قطع الطرق مسرعاً إلى محطة القطار، وصل لمصدر الدفء واتكئ بكتفه عليه ثم مدّ يده إلى جيبه، أخرج قصاصة صغيرة من ورق أصفر، كانت رطبة لدرجة أن جزءاً من الكلام المكتوب عليها بالحبر الأسود امتزج ببعضه وبات غير مفهوم لمن يقرأه للمرة الأولى.
همس في صدره بما كُتب في تلك القصاصة دون أن ينظر إليها، يبدو أنها كانت تعني له شيئاً نفيساً حتى يحتفظ بها بعدما حفظ ما تحويه عن ظهر قلب، ولكنه شعر بشيء من الاطمئنان عندما عاود النظر إليها وأعاد القراءة جهراً دون أن يكون قد أخطأ بأيّ كلمة منها، أعادها للجيب المقابل حين أحسّ بعدما لمسه براحته أنه بات جافاً من تلك الرطوبة التي تقتحم الملابس عندما نهرول مسرعين تحت المطر.
أخرج منديلاً بنياً مسح به حذاءه الجلدي الأسود، ثم استقام ورتب معطفه وتقدم إلى أن صار مقابلاً لزجاج يعكس جزءاً من صورة المحاذي له، وأخرج مشطاً ناعماً سرح به شعره، بعد ذلك استدار باتجاه شباك قطع التذاكر وذهب بهدوء وثقة، أخرج محفظته وهو يقول للموظف: أريد تذكرة إذا سمحت فلقد سئمت من هذه الحياة، لم يفهم موظف التذاكر الجزء الثاني من جملته ولكنه لم يعبأ، فكثيراً ما يتعرض خلال عمله لأشخاص يحسبون أنفسهم خفيفي الظل، سأله الموظف دون أن ينظر إليه: إلى أيّ مدينة وجهتك حتى أعطيك التذكرة المناسبة؟ فقال الرجل: ولكني لا أريد الذهاب إلى أيّ مدينة،
عندها رفع الموظف رأسه باتجاه الرجل غاضباً وهو يحاول ألا يظهر له ذلك، وقال: يا سيدي، أرجوك ليس هنالك متسع من الوقت للمزاح انظر خلفك، المسافرون ينتظرون، فقل لي بسرعة إلى أين أنت ذاهب لكي أقطع لك التذكرة المناسبة؟ ابتسم الرجل واقترب قليلاً من النافذة ثم همس للموظف: أظن أنك فهمت عندما قلت لك إنني سئمت هذه الحياة وأريد التذكرة المناسبة لهذه الحالة، أريد تلك التذكرة هيَّا أسرع قبل أن تأتي السفينة!.
جحظت عينا قاطع التذاكر وأنزل نظاراته الطبية المستطيلة، ثم ارتفع صوته قائلاً: هذا ليس وقت المزاح يا سيد، تذكرة سفينة؟ هذا ليس مضحك إطلاقاً، تنحّ ودعني أتابع عملي، عندها تقدم ثلاثة من المسافرين إلى النافذة مستفسرين عن سبب هذا التأخير، فقال لهم الموظف: أنا لا أحبذ المزاح حين العمل، أرجوكم أبعدوا هذا الرجل من هنا ودعونا نستكمل قطع تذاكركم، فقال الرجل بصوت مرتفع: ولكني لا أمزح أيها الأبله، أنا أريد تذكرتي الآن، الآن وقبل أن تأتي السفينة، أريدها حالاً، تجمع المسافرون حول الرجل وهم يتمتمون بكلمات عدّة، إنه مجنون،
لا إنه ليس مجنوناً، ولكنه على الأغلب نسي أن يأخذ الدواء، إن ضغط العمل في هذه الأيام كبير جداً، فتقدم شابان إليه وقال أحدهما مع ابتسامة صغيرة: يا صديقي إنك في محطة القطار ولست في الميناء، وهنا نقطع التذاكر لكي نركب القطار، وليس لكي نصعد إلى السفن، انظر حولك هل ترى أي بحر هنا؟
انتفض الرجل ودفع الشابين بقوة وهو يصرخ: إنكم متآمرون ضدي، جميعكم لا ترغبون أن أصعد إلى السفينة، ولكني سأصعد إليها رغماً عنكم، ودون أي تذكرة.
حينها جاء أمن المحطة، واتصل أحدهم بالمشفى ظناً منه أن هذا الرجل مريض، أو يعاني من أمر نفسيٍ ما، لم يكد يمضي أقل من نصف ساعة حتى انتشر الخبر في المحطة، عن الرجل المجنون الذي يريد تذكرة إلى السفينة! لا بل هو مُصر على أنّ السفينة قادمة إلى المحطة، وسيتخلف عن موعدها إن لم يقطع له الموظف التذكرة، فتجمهر حول الرجل عدد من المسافرين، أحضر أحدهم كرسياً وزجاجة ماء إلى الرجل وجلس حوله بعض الأشخاص مشفقين على حاله، يحاولون فهم ما يريده، ولكنه لا يزال يردد وبإصرار إنه يريد الصعود إلى السفينة، كان متأكداً أنها قادمة، لقد كان يقسم أنها ستأتي بعد قليل.
ما الذي يدفعك للاعتقاد بهذا؟ قال أحدهم، صمت الرجل قليلاً وخيّم الهدوء في المكان لبضع ثوانٍ، تحركت خلالها يد الرجل باتجاه جيبه وأخرج القصاصة الصفراء، ثم قال: إنه جدي، كانوا يصفونه بالحكيم، ومنذ فترة تصفحت مذكراته القديمة ولفت نظري هذا المقطع، وأنا أعلم أن جدي لا يكذب، لقد قال إن الراحة في تلك السفينة، وأنا نفَّذت ما قال، وإليكم ما قال فيها: إن في العواصف ناراً ونوراً، ودروباً توصل زوارها إلى محطاتهم؛ حيث يحطون فيها أعباء ما خاضوا، كل بحسب قدره ومنزلة نفسه، وما إن تطمئن النفوس حتى تأخذها السفينة، لترسم مسارها في شقوق السماء، عندما كان العرش على الماء.
حين قرأ الرجل بصوته المرتجف ما كُتب في تلك القصاصة، وقع صدى الكلمات في أذن إحدى النساء المتفرجات من الصفوف الخلفية، كانت امرأة في بداية الأربعينات، يطوف حولها شيء من الوقار، وقعت الرهبة في نفسها، لكن رغم خجلها وهالة التردد التي أحاطت بها، تقدمت كمن يقتحم معركة، وقفت أمام الرجل وهي تبتسم، لا تقلق أيها السيد، إن جدك صادق، وغالباً إنك لم تصاحبه كثيراً؛ لهذا خدعتك كلماته، ورسمت لك صوراً غير حقيقية، إن جدك لا يقصد بالعواصف ما تراه خارجاً من برق ومطر، إني أرى أنه قصد أن الاستكانة والتقليد هما طريقة الضعفاء،
وأن الكادحين لا بد أن يخطوا خارج الحدود المرسومة، وهذه الخطوة هي العاصفة بخيرها وشرها، ففي المسافة المفتوحة خارج المفاهيم التقليدية مفاهيم أخرى قد تزرع فيك ما لن تحصده إن كنت جباناً، وعندما يطمئن فؤادك لتلك الدروب أي عندما تألفها وترى شوكها زهراً، ستفهم أن السفينة هي أنت بكل ما تحوي في كوثلها المتمثل بالوجدان من أفكار واعتقادات تناغمت وانسجمت وكسرت التناقض حتى باتت جسداً واحداً.
ثم التفتت المرأة إلى جموع المسافرين المصغين بشغف لحديثها، وقالت بصوتها الناعم الجريء: أيها السادة علينا أن نعترف بأننا على كميات متفاوتة من الإدراك والوعي والفهم والتذوق، فمنّا من يرضى بظاهر الأمور ويعيش متعلقاً بالقشور، لا يستطيع الخوض في غيرها؛ لأن نفسه غير مهيأة لهذا، وحدود عقله صلبة، هذا ما حكم به على نفسه حين اختار منزلته، ومنّا من يدفعه الإدراك إلى الوعي والإحاطة بالجزئيات ثم إطلاق الأحكام العميقة، ومنّا من يقوده الوعي إلى الفهم، أيّ أنه أدرك الجزئيات ووصل إلى الكليات، وربما بشكل معاكس أحياناً، والأخير من قاده الفهم إلى تذوق المعنى ورصد حركة الحرف وفهم الكُنه والوقوف على حافة الكلمة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.