عندما كنا تلاميذ في ثمانينات القرن الماضي، كانت مدخلات التعليم بالنسبة لنا تنحصر في السبورة السوداء والطباشير الأبيض والملون والكتب التي كُتبت حروفها بالآلة الكاتبة، جميعها بنفس الخط، على ورق بسيط، وكانت الصور التي تحتويها معظمها بالأبيض والأسود، كان كل شيء في الحقيقة بسيطاً.
كان لدينا القليل من الإمكانات المادية، ولكن كان لدينا الكثير من الوقت، الكثير من الوقت لكي نتعلم كيف نكتب مع مراعاة جمال الخط وعلامات الترقيم، وكيف نقرأ بحيث ينخفض الصوت ويرتفع وتتغير نغمته مع اختلاف معاني الجمل وتنوعها بين الخبرية والإنشائية.
كان لدينا الوقت لكي نتعلم بجانب اللغات والرياضيات والعلوم كيف نستخدم أيادينا في العزف على آلات الموسيقى المختلفة وفي أعمال التطريز والتريكو للبنات والنجارة والزراعة للأولاد.
هذا كله بالإضافة إلى العنصر الأهم (المدرس)، حضوره القوي، وشخصيته الموقرة المؤثرة، وشرحه في الفصل، في الفصل "فقط".
أتأمل الآن جيل أولادي، لقد تنوعت وسائل التعليم وتطورت سريعاً من الكتب المصورة ذات الورق المصقول والألوان المبهرة إلى السبورة البيضاء إلى السبورة الذكية إلى الكمبيوتر إلى التابلت.. لقد سُخِرت لهم كل وسائل التكنولوجيا الحديثة وأصبح الحصول على المعلومات في سهولة وسرعة طرفة العين.
ولكن.. هل جعلت كل هذه الإمكانات منهم جيلاً متعلماً بحق؟ هم بلا شك لديهم ثقافة إلكترونية كبيرة، وقدرة عالية على التعامل مع التقنيات الحديثة ربما يسبقوننا فيها بسنوات ضوئية، ولكني لا أتحدث عن هذا النوع من التعليم.
التعليم -كما أراه- لا بد أن يكون علاقة تفاعلية بين العلم وبين العقل.
أكاد أجزم أن أغلبية تلاميذ هذا الجيل يصعب عليهم تلخيص قصة بأسلوبهم أو عرضها في شكل نقاط رئيسية أو نقدها وإبداء رأيهم الشخصي فيها، أو في أسلوب الكاتب، أو الإجابة على سؤال من نوعية ماذا أراد الكاتب أن يقول بين السطور؟
وهذا ببساطة لأن ذلك النوع من التعليم الذي يتلقونه هو تعليم غير تفاعلي، تعليم من طرف واحد، تعليم جعل من عقولهم مجرد أوعية لتلقي المعلومات وحفظها، ومن ثم إعادة عرضها بنفس ذات الطريقة التي تلقتها بها، فالمخرجات المعرفية لديهم لا تختلف قيد أنملة عن المدخلات التي سبق إقحامها في ذاكرتهم.
هم جيل مظلوم بلا شك، فليس العيب فيهم أبداً، هم جيل في الواقع مجني عليه، "فالكَمّ" غير المناسب إطلاقاً هو -في رأيي- الذي أدى إلى هذا "الكيف" السيئ جداً، أقصد بالكَمّ هنا عدة أشياء: كم المواد المختلفة العديدة، كم المعلومات الكثيرة جداً التي تحتويها كل مادة، أقصد بالكم أعداد التلاميذ الكبيرة في الفصول، وأيضاً كم الوقت القليل غير المتناسب مع العناصر السابقة.
ما الحل إذاً؟ الحل معروف، ينادي به خبراء التربية المخلصون منذ سنوات: تطوير المناهج، وأساليب التدريس، تطوير المدارس وإعداد المعلمين.
المشكلة ليست في الأفكار، فالأفكار متوافرة، وليست في الإمكانيات؛ لأن كل شيء من الممكن أن يتطور ويتحسن بالتدريج حتى لو تم ذلك بشكل بطيء، المشكلة الحقيقية تكمن في عدم وجود إرادة حقيقية للإصلاح، عن عمدٍ كان أو عن جهلٍ.. لا فرق.. فالنتيجة واحدة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.