رغم أن الشأن الاقتصادي كان بالتأكيد على أجندة أي حركة تحرر وطني إبان الاستعمار، فإنه لم يكن هناك وعي بخصوصية أوضاع الدول المُستعمَرة، فقط كلام عام حول الاستقلال الاقتصادي، لكن بقي الانقسام حول البرامج الاقتصادية لمرحلة ما بعد الاستعمار يشبه الانقسام في العالم المتقدم، ما بين يمين رأسمالي ويسار اشتراكي بحسب الأيديولوجيا والانتماء الاجتماعي، دونما انتباه للخصوصيات الهيكلية للبلدان المُستعمَرة المتخلفة، وهو ما عبّر عنه غياب أي أطروحات خاصة بالتطور الاقتصادي الخاص بها، اللهم إلا الأطروحة الغامضة نسبياً التي لم يستكملها ماركس حول نمط الإنتاج الآسيوي.
وكان لغياب هذا الوعي أسبابه الموضوعية، فبينما كانت الدول المتقدمة غير معنية أساساً بتطور البلدان النامية إلا في إطار التبعية لها، وفي خدمة مصالحها الاستعمارية معها، كان اليسار الاشتراكي مشغولاً بالثورة الوطنية الديمقراطية بمعناها العام الهادف للتحرر الوطني والاستقلال الاقتصادي كمرحلة تمهيدية وانتقالية للتحول الاشتراكي في إطار الثورة الاجتماعية، وغالباً ما تم دمج المرحلتين معاً لدى بعض تياراته.
وما كادت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها، حتى اشتدت موجة ثورات التحرر الوطني وعلا كعبها، فبدأت تقتلع -وفي القلب منها الحركة الشيوعية العالمية مدعومةً من الاتحاد السوفييتي- بقايا الاستعمار بقوة عاتية، أنهت معظم معاقله خلال أقل من خمسة عشر عاماً.
وهنا كان لا بد للدول الاستعمارية السابقة لتستطيع الحفاظ على بقاء امتيازاتها ضمن النظام الرأسمالي العالمي أن تعمل على الحفاظ على العلاقات الرأسمالية في المُستعمَرات السابقة التي تركتها ظاهرياً، فكان لا بد أن تبدأ في تصدير مفاهيم رأسمالية كي تتبناها القوى التابعة لها في تلك المُستعمَرات، وإلا انتصر بديلها النظري مُتمثلاً في التصور الاشتراكي الذي تجسّد في تجربة تنموية ناجحة هي الاتحاد السوفييتي بتجربته الستالينية التي صنعت دولة عظمى في غضون ثلاثة عقود لا غير، رغم ظروف شديدة القسوة من الحصار الغربي ومؤامرات لا تنتهي، وحتى حرب عالمية كان هو المُستهدف الرئيسي منها، تلتها حرب باردة واجهته فيها كل القوى الرأسمالية التي تشكّل قوى العالم المتقدم كله وقتها!
وهكذا بدأ يتكون حقل التنمية الاقتصادية كموضوع بحث علمي مُستقل هدفه الوحيد تقريباً هو تقديم أطروحات ونماذج نظرية رأسمالية تعمل وفقاً لها البلدان حديثة الاستقلال وقتها، بدلاً من أن تنجرف مع النموذج السوفييتي اللامع في ذلك الحين، تلك البلدان التي كانت ظروف الفقر والآفاق المسدودة تدفعها باتجاه ذلك النموذج بعيداً عن نمو رأسمالي لا يعالج الفقر ولا يأبه بالفقراء!
ولكن لأن النشأة لا تحكم الصيروة بالضرورة، فقد اضطرت المدرسة الاقتصادية الرأسمالية الرسمية للتعامل الأكثر جدية لاحقاً مع مشكلات التنمية في البلدان المتخلفة مع استمرار الأوضاع البائسة بها بفشل ما اقترحته من برامج تنمية لا تتسق وظروفها علمياً، ولا تهدف لتحقيق مصالحها عملياً، كما بدأت بعد أقل من عقدين من الحرب العالمية الثانية تتكوَّن كوادر اقتصادية واجتماعية علمية في تلك البلدان ذات وعي واهتمام أكثر جدية بمشكلات بلدانها حتى مع ما غلب على تلك الكوادر من توجهات غير ثورية؛ ما حقّق شرط الوعي بالذات الذي فرض، كما مكّن من مراعاة الأوضاع الخاصة بالبلدان المتخلفة في ضوء تطورها التاريخي الخاص قبل الاستعمار وبعده، وهكذا بدأ فرع التنمية يتميّز عن دراسة النمو التقليدي بدخول العنصر الهيكلي في الوعي العلمي به، وبذا تبلورت التنمية كحقل دراسات مُستقل علمياً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.