كوب ماء على طاولة المرسم، لا شيء مميّز، قطعة من الزجاج الصّلب المشكّل، صافٍ ولامع، ولا يدلّ إلّا على التطوّر التقني الّذي وصل له العالم في الوقت الّذي كانت تتطلب فيه قطعة أنيقة كهذه جهداً كبيراً من شخص ما، خيوط من الشمّس تتسلل عبر الجدار الشفاف للكأس فكأنما تحاول أن تغازله؛ لتصطدم أخيراً بالماء البارد الّذي يملؤه، المشهد وإن كان مكرّراً فهو لا يزال يبثّ في نفسي الغبطة، هذا الانعكاس غير المحدود للزجاج والماء فكأنما يتحدان وينصهران في قالب واحد؛ لهذا أنا لا أملأ الكؤوس الزجاجية إلا بالماء، هذا السّائل العديم الماهية وغير اللافت على الإطلاق،
لا بهرجة فيه ولا صخب، أغمر إصبعي فيه وألعقه (هممم)، ليس حلواً، ولا مراً، لا شيء، فقط لا شيء، حنت ببصري مجدداً أتأمل هذا المشهد، الكأس الموضوعة على طاولة المرسم المتّسخة، بكل النقاء والصّفاء الّذي تمثله، في غرفتي هذا الوجود المتناقض والممتلئ بالأشياء العبثية، ياااه.. لأكثر ما تشبهني هذه الكأس، وانطلقت أفكّر في هدوء خاشع عن الشّيء الّذي يملؤني، لو أستطيع أن أمدّ إصبعي فأتذوقه كما تذوقت الماء قبل دقيقة، إنها لقضية، ماذا لو -ماذا لو بالخط العريض- كان ما يغمرني يشبه الماء في لا شيئيته، هو بلا شك له حجم وكتلة ما يجعله شيئاً يشغل حيزاً من الفراغ كما علّمونا في الفيزياء،
لكنّه يفتقد للصّفات الّتي تجعل منه شيئاً مختلفاً ومميزاً، مجرد كيان شفاف، يجعل من الظاهر والباطن امتدادين لشيء واحد، الظاهر والباطن، الماء والزجاج، الجسد والروح.. لو كان للماء أن يكون تجسيداً للروح الّتي لم أتوقّف أتطاول عليها، هل يكون جسدي شيئاً جميلاً كهذه الكأس هنا، لامعاً ومصقولاً بحذر، شفافاً، نظير لما بالدّاخل والعكس، موضوعة في هذا العالم الصاخب، الكبير والتافه في آن واحد.. سحقاً!
هذه الأفكار تجعلني عطشى، أحاول أن أمدّ يدي للكأس، ينزلق من يدي المرتعشة ويرتطم بالأرض الصّلبة، وأرتجف، هذه الكأس كانت أنا قبل بضع دقائق، كاملة. مثالية.. وجميلة.. يد غير مسؤولة جعلت منها جسماً يتشظّى فيجرح، ما يكسر لا يعود كاملاً، ما يكسر لا يعود كاملاً، قفزت هذه الجملة لرأسي وغزته فيما ملأت الدموع عيني وعاد كلّ شيء مغبشاً ومليئاً بالفوضى والضّجيج كما كان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.