لاجئون بلا حرب

عن كل الذين يحملون بداخلهم الكثير من الصدق، أصحاب القلوب النقية التي لم تصِبها آفات البشرية، أولئك فقط من تكون خسارتهم غير قابلة للتدارك وأولئك غالباً ما يهدون قلوبهم للمارين؛ ليعبثوا بها كيفما شاءوا ويتركوها كيفما شاءوا، ولأني أؤمن بأن ذلك شكل من أشكال الغباء

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/31 الساعة 01:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/31 الساعة 01:23 بتوقيت غرينتش

بعيداً عن المخيمات، عن قنابل الهاون والمتفجرات، بعيداً عن بقايا منزل أكلته النيران، عن تلك العيون الباكيات الشاكيات اللاتي يتطلعن من خلف ثقوب الجدران؛ حيث للحرب رائحة ولون، تلمحها كالشبح يتسلل في زوايا منازلهم وفي زوايا قلوبهم منذ الولادة، على أصوات القذائف يلتقون الحياة؛ لتكون الحرب أول شاهد، وحتماً آخر شاهد على وجودهم في الحياة، بعيداً عن هذا وذاك.

ولأن للحرب وجوهاً عدة، ولأن في الحب شكلاً من أشكال الحرب، كلاهما يأتي فجأة، نحن لا نعلن البداية ولكننا نعلن النهاية بامتياز، فمحاولة الحفاظ على من نحب هي أيضاً حرب قد تخلف آلاف الضحايا هنا وهناك.

عن أولئك الذين يحاولون بكل ما أُوتوا من قوة؛ حتى ينهاروا بكل ما أُوتوا من قوة، عن الذين عادوا من معارك الحياة منهزمين، منكسرين، مدمرين بالكامل باحثين عن ملجأ يخبئون فيه أوجاعهم التي لم يعد الكون ليسعها في تلك اللحظة، عن ذاك الذي فقد الحبيبة فصار يفتش عنها في ملامح الأخريات، في نظرة هذه وابتسامة تلك، وينسج شبيهاً لها، كأني به يعود لها، مع كل فتاة، كأني به بفقدانها فقد الحياة، عن تلك التي فقدت الصديق أو الصديقة في لحظة من لحظات الحقيقة، عن كل الذين دفنوا جزءاً من أرواحهم تحت التراب مع أشخاص صار منزلهم التراب.
عن أولئك أتحدث، أليسوا أيضاً لاجئين؟

ولأنني أؤمن بأن الفقدان هو أسوأ ما يمكن أن يتعرض له الإنسان، وغالباً ما يجعلنا نفقد التوازن الفكري والروحي والنفسي بمجرد حضوره، فتنقلب موازين الحياة فجأة ليعترينا ذاك الشعور بأن الكون قد توقَّف عن الدوران لبضع لحظات، عالم كئيب باهت الألوان، وذكريات على حافة النسيان.. رغبة مُلحة بالهروب من الحاضر والماضي ومن كل الأزمنة على حد سواء، شعور باللاانتماء، هي نفس اللحظة التي نصبح فيها قابلين للكسر من جميع من حولنا، ولو دون قصد منهم، فنمارس فعل اللجوء بامتياز في سبيل التخلص من ذكرى شخص كان يحتل حياتنا بنفس ذاك الامتياز، سنبحث عمَّن نتجرد أمامه من أوجاعنا كأننا نتخلص من عبء ثقيل للأبد؛ لنعود للحياة بقلوب غير قابلة للكسر من جديد.. أولئك الأشخاص الذين لا نحتاج أمامهم للعب أدوار وهمية ورسم ابتسامات صورية، كأننا نخجل من كشف ستر قلوبنا أمام غيرهم، ولأن القلوب أوطان، فهنيئاً لمن كان له وطن يحتويه في تلك اللحظات التي نفقد فيها الهوية.

عن كل الذين يحملون بداخلهم الكثير من الصدق، أصحاب القلوب النقية التي لم تصِبها آفات البشرية، أولئك فقط من تكون خسارتهم غير قابلة للتدارك وأولئك غالباً ما يهدون قلوبهم للمارين؛ ليعبثوا بها كيفما شاءوا ويتركوها كيفما شاءوا، ولأني أؤمن بأن ذلك شكل من أشكال الغباء، يصبح لعب دور الضحية في مثل هذه الحالة أيضاً غباء؛ لأنه سيحجب عنك حتماً النظر للمستقبل، لما هو أجمل ومَن هو أصدق، وسيجعلك تهدي لحظات أخرى من حياتك من جديد لشخص لا يستحق أن تهديه المزيد.

عن كل الذين اغتيلت أرواحهم.. أحلامهم، في علاقة حب زائفة، في جريمة حب زائفة، فأنا التي تؤمن دائماً بأن النظرات الزائفة، الكلمات الزائفة والوعود الزائفة وكل أشكال التمثيل في الحب، خيانة عظمى وجريمة لا يعاقب عليها القانون، وربما من مفارقات الحياة أن تكون طالبة الحقوق هي أول مَن يقر بوجود جريمة لا يعاقب عليها القانون… عن أولئك أتحدث.
جميعنا كنا ذات يوم.. ذات لحظة.. لاجئين بلا حرب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد