عن مؤسسة المرأة الجديدة، أصدرت الخبيرة الاقتصادية الدكتورة سلوى العنتري، في ديسمبر/كانون الأول 2014م، كتاباً ربما كان الأول من نوعه، في محاولة لـ"تقدير قيمة العمل المنزلي غير المدفوع للنساء في مصر"، ليس فقط بهدف التقدير الكمي لمساهمة النساء في النشاط الاقتصادي بمصر؛ بل أساساً للرد على فكرة أن النساء لا يعملن ولا يشاركن في الإنتاج، ولتعزيز مكانة المرأة اجتماعياً على أساس الاستحقاق الذي يوفره دورها في النشاط الإنتاجي للمجتمع.
وينقسم الكتاب إلى 4 فصول؛ يتناول أولها العمل المنزلي في الفكر الاقتصادي، وثانيها التجارب العالمية لحساب قيمة غير المدفوع منه، أما ثالثها ورابعها فيختصان بمنهجية القياس والتقدير وتطبيقها لاستخلاص النتائج.
وهكذا، يناقش الفصل الأول مواقف المدارس الفكرية المختلفة من العمل المنزلي غير المدفوع، فنجد الفكر الرأسمالي يراه يدخل في المجال الخاص غير السوقي بما يبرر استبعاده من الحساب الاقتصادي العام.
ويُذكر في هذا الصدد، تهكم سيسل بيجو، مؤسس اقتصادات الرفاهية، من انخفاض الناتج الإجمالي لو تزوج رجل خادمته؛ ومن ثم خروج خدماتها بأجر من السوق بتحوّلها لعمل منزلي. ومع ذلك، هناك بعض الاجتهادات الهامشية الحديثة التي تبحث تخصيص الوقت على الأنشطة وترى العمل المنزلي على هذا الأساس عملاً اقتصادياً، فضلاً عن كونه يشبع الحاجات ويرفع مستوى الرفاهية في المجتمع؛ بحيث يجب أخذه في الاعتبار إلى جانب العمل المُسعَر في السوق.
أما الفكر الماركسي، فينظر لهذا العمل في سياق التطور التاريخي، فهو قيمياً يراه عملاً بائساً ورديئاً ومضيعة للوقت، ينتمي إلى الاقتصاد الطبيعي القائم على الإشباع الذاتي المباشر للحاجات، في مقابل الاقتصاد السلعي النقدي القائم على عمليات إنتاج وتبادل سوقية موضوعية، كما يراه عملاً خدمياً غير إنتاجي وفقاً لقانون القيمة وبما يوافق التصور الكلاسيكي وتهكم سيسل بيجو سالف الذكر. لكن هذا العمل المنزلي في صورته الطبيعية تلك سيتلاشى تدريجياً مع تعمّق عملية "التسليع" في نطاق التطور الرأسمالي، حيث ستنتقل بعض الأعمال المنزلية للسوق، كما ستخفض التكنولوجيا من أعبائها وتعيد توزيعها داخل المنزل، فضلاً عما ستتحمله الدولة من مهام عامة تخصها في التربية العامة للأطفال؛ بحيث يتسع المجال للمرأة لتوجيه معظم جهدها للعمل الإنتاجي خارج المنزل، بما يعزز وضعها في المجتمع ويزيد من استقلالها الاقتصادي.
أما الفكر النسوي، الذي انطلق معظمه من منطلقات ماركسية بقدر من الانتقائية الأيديولوجية، فقد خلص إلى عددٍ من النتائج خالف فيها التصور الماركسي الكلاسيكي، فرأى في ذلك العمل عملاً منتجاً، بمساهمته في إنتاج قوة العمل، وأنه عمل يخضع لقانون القيمة بخضوعه لقيود مالية تفرض عليه الكفاءة كإنتاج السوق (وهو شرط غير كافٍ موضوعياً وقول غير دقيق علمياً)، كذا أنه ينتج فائض قيمة يحصل عليه الأزواج (شركاء الرأسماليين المُستغلين في هذه الحالة!)، فضلاً عن كونه يخدم الرأسمالية، بخفضه تكاليف إنتاج قوة العمل (رغم أن الرأسمالية نفسها تسعى لتسليعه من جهة أخرى!).
وتناول الفصل الثاني الممارسات الدولية التي تمت لمعالجة العبء المترتب على هذا العمل، ونذكر منها: إعادة توزيع العمل المنزلي داخل الأسرة، وتحسين قوانين أجور ومعاشات النساء ورعاية الأطفال، وتوفير الحضانات ودور رعاية الأطفال، وقوانين اقتسام الثروة بين الزوجين عند الانفصال… إلخ.
وناقش كلٌ من الفصلين الثالث والرابع منهجية القياس وتطبيقها، فحدد مفهوم العمل المنزلي غير المدفوع بأنه أعمال الخدمة المنزلية ورعاية الأطفال والمسنين والأعمال التطوعية؛ لتحديد عدد ساعات العمل من هذا النوع، واستبعد منها ساعات الأعمال التطوعية لغياب البيانات، ثم انتقل لتقييم قيمة ساعة العمل تلك، فحدده بـ3 أساليب ممكنة لا ينجو أي منها من مآخذ قوية، وهذه الأساليب هي: تكلفة الفرصة البديلة (أي العمل المُحتمل الذي تتركه المرأة للتفرغ للعمل المنزلي)، وأجر العمل المثيل المتخصص وغير المتخصص، واختارت منها الدكتورة العنتري تكلفة الفرصة البديلة وأجر العمل المثيل غير المتخصص؛ لاعتبارات عملية تتصل بغياب البيانات التفصيلية الضرورية لأجر العمل المثيل المتخصص.
وباستخدام بيانات إحصاءات التوظيف والأجور وساعات العمل لعام 2012م، وبيانات المسح التتبعي لسوق العمل في مصر لعام 2012م، توصلت الدكتورة العنتري إلى أن إجمالي ساعات عمل الرجال تبلغ نحو 54 في المائة وساعات عمل النساء نحو 46 في المائة من إجمالي عدد ساعات العمل على المستوى القومي لعام 2012م، بلغ المدفوع منها للرجال من إجمالي ساعات عملهم نحو 90 في المائة، فيما بلغ للنساء نحو 18 في المائة فقط.
وباستخدام معايير قيمة الأجر المذكورة سابقاً، انتهت الدراسة إلى أن قيمة إجمالي العمل المنزلي غير المدفوع للرجال والنساء معاً تتراوح ما بين 22 و35 في المائة تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2012م، فيما تتراوح قيمته للنساء فقط ما بين 20 و30 في المائة تقريباً، وبمتوسط 25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
ولا شك في أهمية وجدّية عمل الدكتورة سلوى العنتري وفي جرأة وأصالة المحاولة، خصوصاً في ظل ضعف وسوء البيانات، وهو ما يدفعنا لطرح بعض التساؤلات، نظن أهميتها لتطوير الطرح وتعميقه.
هناك بعض المآخذ على طرائق الحساب؛ ومنها ما ذكرته المؤلفة نفسها، خصوصاً تلك المتعلقة بمعايير تقدير أجر ساعة العمل المنزلي غير المدفوع، ألا يؤدي افتراض معيار تكلفة الفرصة البديلة إلى تصورات غير صحيحة وأوضاعٍ غير واقعية؛ كتوافر فرص العمل بالأجر ذاته وتكافؤ نوعي العمل (داخل المنزل وخارجه)، لإسقاطه كمعيار تقدير ملائم؟ كذا، ألا يفترض معيار أجر المثل بقاء أجر المثل المُعتمد في الحساب على حاله، رغم تغير حجم السوق وتغير توازناته بإدخال العمل غير المدفوع والإنتاج غير السوقي فيه؟
هناك تساؤل آخر على المستوى الكلي يتعلق باحتمالية ازدواجية الحساب، فحيث إن جزءاً كبيراً من العمل المنزلي هو أساساً عمل يسهم في إنتاج وتجديد قوة العمل المُوظفة في عمليات الإنتاج السوقية، فالزوجة بعملها المنزلي إنما تجدد قوة عمل زوجها التي يوظّفها بمقابل في السوق، وهي بهذا شريكته في الأجر النهائي الذي يحصل عليه، أي إن قيمة عملها المنزلي مُضمَّنة فعلاً فيما يحصل عليه من أجر أو فيما يقتطعه الرأسمالي من فائض قيمة منه؛ ألا تؤدي إعادة حساب تلك القيمة بشكل مستقل إلى خلق ازدواجٍ في حساب الناتج الإجمالي؟
كذا، ألا تكشف نتائج هذا الحساب عدم دقة ولا منطقية استخدام أجر المثل -المُشوه باعتباره نتاج سوق غير كاملة لسلعتها- كمعيار لتقدير قيمة ساعة العمل المنزلي غير المدفوع؟ فوفقاً له، تتجاوز القيمة الإجمالية للعمل المنزلي غير المدفوع -الذي هو مجرد جزء من تجديد قوة العمل السوقية- القيمة الإجمالية لقوة العمل السوقية نفسها؛ أي تجاوز قيمة الجزء لقيمة الكل، ألا يشكّل هذا استحالة منطقية؟
ولا تقلل هذه التساؤلات من أهمية وريادية العمل المميز للدكتورة سلوى العنتري، كما لا تغيّر من نتائجه الأساسية ومراميه التقدمية؛ بل لعلها تكون دافعاً لرائدته ولآخرين لتطويره والانطلاق به إلى آفاقِ أرحب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.