حينما ودّعتُ أبي وأمي في مطار الملكة علياء في الأردن، وقبل إقلاع الطائرة قالا لي: تذكر جيداً حينما تصعد السلالم إلى الطائرة، فأنت تصعد السلالم إلى المستقبل.
عندما كنتُ صغيراً في غزة هاشم لم أفكر قط أني في يومٍ من الأيام سأدرس خارج غزة، كان كلُ ما يراود فكري هو النجاح في المدرسة والخروج مع الأصدقاء بعد انتهاء الدوام المدرسي، وعندما بلغتُ مرحلة الثانوية، وخصوصاً في الصف العاشر، سافرتُ أنا وأهلي إلى فرنسا في زيارة قصيرةٍ لأخي الذي كان يدرس الهندسة المدنية وقتها.
كنتُ سعيداً في اجتماعنا العائلي في مكان لا يمكن وصف جماله، فرنسا، لكن الصدمة الثقافية والإعجاب الشديد بمدى جمالها وتقدمها طغوا على سعادة اللحظة العائلية تلك، وبعد ذلك، تحولت تلك الصدمة إلى غضبٍ شديدٍ على وضع شعبي الفلسطيني اليائس وعلى غزة البعيدةِ كل البُعد عن فرنسا في جميع النواحي.
وحينما كُنا في مدينة ليل في شمال فرنسا البارد، كان يستوقفني أبي بعد كل شارع نقطعه، ويقول: ستكون هنا بعد سنتين. تعجبتُ من مدى ثقته في كلامه في البداية، لكن مع الوقت بدأت تتضح لي الصورة ويرتسم لي مخططه الاستراتيجي.
حينما عُدنا إلى مدينة غزة قال لي مرة أخرى: "هكذا، أتممتُ نصف واجبي تجاهك، لقد رأيتَ نصفَي هذا العالم الآن، إذا أردتَ أن تعودَ هناك مرةً أخرى فعليك بالتفوق في دراستك وتفتيح آفاقك وذهنك".
أستطيعُ أن أقول: إنني ما عدتُ الشخص ذاته حينما سافرتُ وعدتُ مرة أخرى، أصبح لديَّ هدف ورؤية وتخيل لما أردت أن أفعلَ في حياتي، أصبحتُ أرى الأمور بطريقةٍ مختلفة وتحليلها بطريقة مختلفة حتى، كل هذا كان نتيجة السفر على الرغم من قراءة الكتب التي كانت لها أثر في تغيير طريقة تفكيري، لكن يبقى السفر المعلم الأفضل ويبقى أفضل من ألفِ كتاب.
بعد ذلك، أثارت اهتمامي طريقةُ تفكير الطلاب الآخرين وأصدقائي في مدينتي، خصوصاً أولئك الذين لم يسافروا من قبل، لم تكن هناك لديهم رؤيةٌ واضحة عن مستقبلهم، أهدافهم، طموحاتهم وحياتهم.
كل ذلك هو نتيجة للحصار الخانق الذي يتعرض له الشباب الفلسطيني في قطاع غزة بالأخص، وعدم قدرتهم المالية على دفع تكاليف السفر، أو دفع تكاليف التعليم، وأصبح الوضع لبعض العائلات في قطاع غزة سيئاً لدرجة أنهم غير قادرين على شراء الطعام، واضطرارهم لبيع أحذيتهم وملابسهم فقط لشرائه.
إن حرمان أي شخص، وخصوصاً الشباب، من السفر فكأنهم حُرِموا من أحد أجمل الأشياء التي قد يقوم بها شخصٌ في حياته، ومن أجمل التجارب التي قد يحظى بها.
ومن الدروس الأخرى التي تعلمتها من السفر والتغرب الاعتماد على النفس، فقد سافرت مع أهلي إلى فرنسا في نهاية الصف العاشر والحادي عشر، وبعد انتهائي من الثانوية العامة سافرتُ لوحدي، بدءاً من ختم التذكرة وصولاً للشقة في باريس مع أخي.
كان لا بد من السفر مع الأهل في البداية؛ لأن حجم الصدمة يكون كبيراً إلى درجة يصعب التعامل معها، ويحتاج المرءُ إلى بعضٍ من الإرشاد، فمثلاً يغتربُ بعضُ الشباب العربي في أوروبا وأميركا الشمالية ويصدمون بمجرد هبوطهم هناك لأول مرة، ولا يعلمون ما عليهم فعله أو كيف.
في الغالب هناك نوعان من الشباب العربي المغترب: الأول وهو الشباب المتعقل ذو العقل الصافي، والثاني الشباب المُتعصب والجاهل الذي تتكوّن لديه أفكارٌ سلبية وردة فعل غاضبة، ويبدأ العقل بعرض الشريط الذي تربَّى عليه في وطنه من أن الغرب هو المسؤول عن كل ما يحدث في العالم العربي من هبوطٍ وانكسارٍ وهزيمة، وأنهم يتبعون "الدين الكافر"، ويعيشون في فردوسهم ونحن في جحيمنا، وللأسف لم يسافروا هناك من قبل، ولا يوجد أحد ما يشد انتباههم إلى تلك النقاط.
من هنا يبدأ مسلسل ضياع هذا الشباب وانحطاطه الأخلاقي، مثل انخراطهم في تجارة المخدرات وبنات الهوى والإرهاب حتى، والكره الشديد للشعوب الغربية.
وتتعدد الأسباب والعوامل التي تقود لهذه النتيجة غير تعصبهم وجهلهم، مثل عدم تكلمهم اللغة التي تلعبُ دوراً هاماً في إدماج الشخص مع الثقافة والحياة الجديدة؛ لأنهم لو تكلموا اللغة لكان هناك تواصلٌ بينهم وبين الشعب الغربي المستضيف، ولحدث تبادل أفكار ووجهات نظر ومواجهة في النقاش، أيضاً يلعب اختلاف العادات، وخصوصاً التي تكون عكس العادات الغربية، مثل شُرب الخمر، تلعبُ دوراً هاماً في عزل المُغترب (المُتعصب) غير العاقل عن الآخرين، خصوصاً إن لم تكن لديه قيم المسامحة وتقبل الآخر، بالرغم من اختلافاته واحترام شعب الدولة المستضيفة له وعاداته.
وللعزلة تأثير مدمر وسام على الشخص؛ إذ يبدأ بالنظر إلى نفسه بأنه "مختلف" و"مميز"، ويظن أن هذه هي الأسباب التي منعته من الاندماج مع الثقافة الأخرى، وأن ثقافته أسمى وأرفع مقاماً من عاداتهم وثقافتهم، بدلاً من مواجهة المشكلة الفعلية الحقيقية، وهي عدم وجود الشجاعة الكافية أو الاستعداد العقلي والنفسي لديه/ها، أو الذهن الصافي المُتعقل بالتخلص من بعض الأفكار السلبية والأحكام المُسبقة الخاطئة، أو العادات التي تمنعهم من الاندماج، والتي تمثل عائقاً كبيراً أمامهم.
كان من الممكن أن يكون مصيري مثل مصير هؤلاء الشباب لولا سفر أهلي معي وشد انتباهي إلى كل هذه النقاط، وتربيتي على القيم العالمية السلمية وبناء طريقة تفكير منطقية، وهو أن حال الشعب العربي الآن ليس بالضرورة أو بالكامل نتيجة تدخل الدول الغربية، بل بسبب فشل ذريع منا وانحطاط حكوماتنا وأنظمتنا التعليمية، وتقديم الدولة فوق المواطن، بدلاً من أن يكون المواطن فوق الدولة، وأن الشعب في خدمة الرئيس بدلاً من أن يكون الرئيس في خدمة الشعب، وسرقة ثروات الدولة بدلاً من توزيعها، وسوء تمثيل نوايا الشعب بدلاً من اتباع الديمقراطية، وأننا ما زلنا نعيشُ في تاريخنا بدلاً من التعلم منه والتطلع للحاضر والمستقبل، والرد على مطالب الشعب البسيطة جداً، مثل الكهرباء أو السفر أو المستحقات المالية بـ"اصبروا وصابروا" أو "اتوكل على الله" و"لعله خير" بدلاً من تلبيتها.
إن السفر والاغتراب بعقل منفتح وذهن حاضر هو ما مكنني من الاندماج بعمق بالثقافة الجديدة، وتحمل مصاعب الغربة بإجباري على الاعتماد على نفسي وحل المشاكل لوحدي. ومثلما قال لي عجوزٌ فرنسي كان يجلسُ على المقعد أمامي في رحلة في القطار السريع في فرنسا، بعدما لاحظ أني شاب مغترب وطالب علم: هناك نوعانِ من الحبل السري؛ الحبل الأول يقطعه الطبيب وقت ولادتك، أما الحبل الآخر فهو غير مرئي ومتصل بك وببيتك وأهلك، الوحيد القادر على قطع هذا الحبل هو أنت فقط، بالسفر والتغرب واعتمادك على نفسك أنت فقط.
وتبقى هذه التجربة بالأخص إحدى أجمل تجاربي في الغربة، فمثلما قال الرحال الشهير ابن بطوطة: "إنه السفر.. يتركك صامتاً في البداية، ثم يحولك إلى راوٍ للقصص".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.