الفتاة التي ذهبت إلى الهند

فى تلك الليلة كنت أجلس ممدداً قدمي أستمع إلى الموسيقى وأعبث بهاتفي، حدثتني فتاة تجلس على الناحية المقابلة من الطاولة، "شالوم" كان هذا ما قالته، رغم أنى سمعتها لكني تجاهلت ذلك، وتظاهرت بأنني لم أسمع شيئاً بسبب السماعات التي أرتديها، يبدو أن الأمر استفزها، فلوَّحت لى بيديها بوجه عابس، نزعت السماعات ونظرت لها

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/28 الساعة 03:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/28 الساعة 03:01 بتوقيت غرينتش

هذه قصة أحب أن أحكيها كثيراً، عن الفتاة التي ذهبت إلى الهند، كنت أقضي آخر أيامي في ماليزيا بعد أن أتممت دراستي للهندسة، أقمت في أحد بيوت الضيافة البسيطة -اسمه لا فيلاج أو القرية باللغة الفرنسية- كان يتمتع بالدفء والروح ويقع في وسط العاصمة الماليزية كوالالمبور.

يعرف من اعتاد السفر هؤلاء الأوروبيين الذين يرتحلون حول العالم لأشهر حاملين على ظهورهم حقائبهم الضخمة، يقيمون في نزل بسيطة بعيدة عن الرفاهية، ما يهمهم هو السفر لأطول وقت ممكن، والتمتع بالأماكن المختلفة والتعرف على أناس من مختلف أركان الأرض.

ينتشر نزلاء بيت الضيافة هذا في الصباح، ويعودون عند نهاية اليوم، يجتمعون حول طاولة مستطيلة في منتصف غرفة المعيشة البسيطة، ويفعل كل منهم أشياءه الخاصة، منهم مَن يهاتف أهله، ومنهم مَن يأكل طبقاً من النودلز الآسيوية بالخضراوات، وآخرون يتحدثون عن مغامراتهم اليومية وخططهم للغد.

كنت آوي إلى تلك الطاولة كل ليلة، أقضي بعضاً من الوقت قبل الذهاب إلى الفراش في غرفة دقيقة المساحة ليس بها شيء إلا فراش ومروحة.

فى إحدى الليالي تعرفت إلى مدرس رياضيات فرنسي في منتصف الأربعينيات، لعبنا مباراة من الشطرنج التزم فيها بالصمت الكامل، كان يمكنه بلا مبالغة استشراف عشر نقلات مستقبلية والتخطيط لها، وأنهى المباراة بالفوز، ومن ثَمَّ استعاد قدرته على الكلام مرة أخرى.

فى تلك الليلة كنت أجلس ممدداً قدمي أستمع إلى الموسيقى وأعبث بهاتفي، حدثتني فتاة تجلس على الناحية المقابلة من الطاولة، "شالوم" كان هذا ما قالته، رغم أنى سمعتها لكني تجاهلت ذلك، وتظاهرت بأنني لم أسمع شيئاً بسبب السماعات التي أرتديها، يبدو أن الأمر استفزها، فلوَّحت لى بيديها بوجه عابس، نزعت السماعات ونظرت لها: "هل يمكنني مساعدتك؟"، ردَّت بأنه من غير اللائق ألا أردَّ على تحيتها، سألتها: وماذا كانت التحية؟ قالت: "شالوم"، قلت لها: حسناً فلست أنا المقصود إذاً.

سألتني من أين أنا؟ فأخبرتها بأني من مصر، فأجابتني بأن الأمر متقارب -إشارة إلى تجاور مصر مع الكيان العبري- رددت متهكماً بأن الأمر متقارب جغرافياً فقط، أخبرتني أنها قابلت العديد من مواطني هذا الكيان في أثناء زيارتها للهند ولقيت منهم عجرفة شبيهة بفعلي عندما لم أردَّ عليها في البداية. بدأ الحوار واجتذب صديقاً لها من النرويج اكتفى بدور المستمع، فضلاً عن رجل فرنسي نحيف تداخل معنا في الحوار، وكان على إلمام بالسياسة وأحوال منطقتنا، ولهذا الرجل قصة أخرى.

في معرض حديثه بالإنكليزية لاحظت منه مصطلحات هندسية تتناثر في وسط الكلام، سألته إن كان يعمل مهندساً؟ فأجاب بالإيجاب، وسألني: "كيف عرفتَ؟". أجبته مبتسماً بأن كلمة – الكفاءة efficiency – لا تأتي إلا من مهندس، خاصة إن كان الحديث ودياً حول طاولة في نهاية اليوم، ضحك وأخبرني أنه يعمل مهندساً في شركة تختص بالطاقة الشمسية، انفصل عن زوجته منذ عدة أعوام، ولذا فهو يعمل طوال العام -في وجود الشمس- وعند حلول الشتاء يتوقف عمله، فيقوم بتأجير منزله والسفر حول العالم بما ادخره طوال العام وبالإيجار الذي يتحصل عليه، يتيح له جواز سفره التجول حول بلاد العالم وكأنها الفناء الخلفي لفرنسا

. أحسست بالأسى عندما تذكرت التعقيدات المتعلقة بالسفر لأي مكان، هم المواطنون العالميون أصحاب الدرجة الأولى والعالم كله لهم أو هكذا أحسست، كان نحيفاً – كطبيعة أغلب الرحالة backpackers – يرتدي قميصاً به خرق أعلى الكتف، لا يزال هذا الأمر عالقاً بذهني، لا يهم المأكل والملبس عند هؤلاء الناس، يبدو أن ما يهمهم فقط هو الترحال والترحال ورؤية كل شيء جديد.

بعد أن أخبرنا صديقنا الفرنسي عن نفسه، أخبرتهم بدوري عن نفسي وماذا أفعل بماليزيا، وجاء دور الفتاة التي يبدو وكأنها أرادت أن تخبرنا عن نفسها بكثير من التفصيل، هي سويدية، كانت تعمل في عمل جيد، تركت منزل والديها وأقامت بمفردها، أرادت أن تجني المزيد من المال، فالتحقت بعمل إضافي، أصبحت حياتها عبارة عن كثير من العمل والمال ولا شيء سوى ذلك، بثبات قاربت على الانهيار، ماذا تفعل؟ وما قيمة كل هذا؟ وأين السعادة في كل ما تمتلك؟ لا شيء، قررت أن تترك العمل وتسافر حول العالم وهاتفت والدتها لتخبرها بذلك!

تركت تلك الفتاة خلفها كل شيء وذهبت في رحلة لمدة شهر إلى الهند، وهذا وكأنه نقلة مباغتة من الماء البارد إلى الساخن، أخبرتنا أنها تعلمت في هذا الشهر أن تقدر كل ما تمتلكه، رأت أناساً لا يملكون شيئاً لكنهم سعداء، الأماكن ليست بتلك الأماكن المنظمة أو النظيفة كما اعتادت عليها في السويد، لكن هناك روح ما تسري في المكان، الألوان وحب الهنود للألوان واحتفالاتهم التي لا تخلو منها، طقوسهم الدينية والمعابد المختلفة، كانت نقلة حادة من مادية لا روح فيها إلى روحانية بلا أية مادة أو إمكانيات، رأت رجلاً كهلاً جالساً على جانب الطريق يتسول،

لكنه كان مبتسماً سعيداً، هذا المتسول جعلها تدرك أنه أكثر سعادة منها، تعرفت إلى الكثير من المسافرين وزارت العديد من الأماكن، استردت روحاً فقدتها في مادية السويد الباردة، وقامت بشراء عشرات الهدايا لأخواتها وأبويها، قامت بإحضار تلك الهدايا ووضعتها على الطاولة وقامت بمهاتفة أهلها بالصوت والصورة، يمكنك أن تسمع صرخات الفرحة منهم عند رؤية كل هدية جديدة وسؤالهم لها متى ترجع حتى تعطيهم كل تلك الهدايا.

لا تزال تلك القصة عالقة بذهني رغم حدوثها من قرابة السبع سنوات، مزيج من الإشفاق على كل إنسان امتلكته الحياة المادية واقتاتت على روحه فأهلكتها، وأسى من تأخرنا كمسلمين في الاستفاقة من ثبات حضاري قد طال.

ما زلت أرى هذا الشغف في حديثها عن طقوس روحانية باطلة، وأسأل نفسي ماذا لو أتيح لها ولمثلها الاطلاع على منهج الله الذي ارتضاه لعباده، بدلاً من الهلكة على عتبات حياة غربية بلا روح أو طقوس شرقية بلا هدى؟ علينا الاستفاقة فنحن رسل رسول الله، نحن المبلغون عنه ولو آية، ولا استفاقة ودعوة إلا باسترداد الأوطان واسترداد أنفسنا أولاً من خزي الاستبداد الذي أورثنا أعواماً من الجهل والتردي.

إن كان العالم بحاجة إلى الإسلام، فحاجتنا كمسلمين إليه أكبر، أتذكر تلك الحادثة كل فترة، ويتكرر معها الإشفاق والأسى، وأسأل الله ألا يطول هذا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد