هكذا يدعم الإسلام الليبرالي الشَّعبوي شبكات الإسلاموفوبيا

وأصبحت تهمة الإسلاموية تُكال للمسلمين الفاعلين بالمجان ولأتفه الأسباب، وقد بالغ هؤلاء جميعهُم في النفخ في شبح الإرهاب الإسلاموي، حتى لَيُخيَّل إلى مَنْ يتابعهم أنَّ أسسَ المجتمع الليبرالي على وشك الانهيار بسبب حفنة من المتطرفين يعدون على رؤوس الأصابع

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/25 الساعة 01:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/25 الساعة 01:31 بتوقيت غرينتش

لم تَكن القيم التي تأسست عليها الجمهورية الألمانية يوماً ما على المحك كما هي عليه اليوم، فسُطُوع نجم اليمين المتطرف، واستفحال العنصرية، وتلونُها بألوان مختلفة بات يشكل خطراً محدقاً يوشك أن يعصف بالسلام المجتمعي في وقت غاب فيه المسلمون، وقلّت حيلتهم، ومالت ثلة من شبابهم إلى التطرف والغلو.

إن اللافت للنظر، في السنوات الأخيرة، حضور شبكات الإسلاموفوبيا بقوة تحت أقنعة شتى ساهمت -على نحوٍ فّعال- في خلق حالة استقطاب حاد لم يسبق لها مثيل في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، شُغلها الشاغل شيطنة الإسلام والمسلمين، ولم يعد تأثير حملتها التي تجري على قدم وساق مقتصراً، كما كان من قبل، على فئة منبوذة من المجتمع فحسب؛ بل صار اليوم يَطالُ بعضَ كبار المثقفين، والفلاسفة، والكتاب، والإعلاميين، ناهيك عن السّاسة الشَّعوبيين.

وقد بلغت هذه الحال مبلغاً يبعث على القلق حتى أضحت إمكانيةُ مشاركة اليمين المتطرف، كحزبٍ أو كأفراد يُضْمِرون الفكر نفسَهُ تحت ألوية أحزاب أخرى، في أي ائتلاف حكومي قادم أمراً ممكناً غير مستبعد.

لقد قام الإعلام الألماني المنحاز بدور أساسي في بلورة هذا الوضع المشحون، فكثُر "خبراء الإسلام" الذين تعج بهم البرامجُ التلفزيونية المختلفة من كل حدب وصوب، وصار الخوض في شؤون المسلمين ودينهم مهنةَ من لا مهنة له، ورصيداً سياسياً لا ينضب لمن لا حيلة له من الساسة، ورجال الدولة المفلسين.

وأصبحت تهمة الإسلاموية تُكال للمسلمين الفاعلين بالمجان ولأتفه الأسباب، وقد بالغ هؤلاء جميعهُم في النفخ في شبح الإرهاب الإسلاموي، حتى لَيُخيَّل إلى مَنْ يتابعهم أنَّ أسسَ المجتمع الليبرالي على وشك الانهيار بسبب حفنة من المتطرفين يعدون على رؤوس الأصابع، وأن ألمانيا باتت قاب قوسين أو أدنى من أنْ تتحول إلى إمارة إسلامية تحكمها الشريعة.

إنّ أهم مبادئ الإعلاميين الشعبويين الذين غالباً ما يمتهنون التشهير، والفضائح، وتعقب عورات الناس، هو الخلطُ -قدر المستطاع- بين مفاهيم الإسلام، والإسلام السياسي، والتطرف، والإرهاب، ونشرُ دِيكُوتُومِيَّة الإسلام مقابل الديمقراطية، والحريّة، والتسامح، وحقوق الإنسان على نحوٍ منهجي ومتواصل، فالمسلم الملتزم في نظر هؤلاء يأبى إلا أن يكون رافضاً للقيم الإنسانية النبيلة، ولا بد أن يكون مجبولاً على التطرف والغلو، عدوّاً للسامية، مضطهداً للمرأة، وحاقداً على المجتمع الذي يعيش فيه.

ويستغل الإعلاميون الشعبويون الجرائم والأحداث التي يتورط فيها المسلمون من الأجانب واللاجئين لإعطائها بعداً ثقافياً لا يجرم الجاني فحسب، بل يجعل كل المنتمين لتلك الثقافة، وذاك العِرق، والدين في قفص الاتهام أيضاً.

من الجهات التي تسهم في دعم هذا الموقف، وتدلي بدلوها فيه بقوة، فريق من الذين يصفون أنفسَهم بمسلمين ليبراليين، أهم ما يميزهم أنهم يُكِنُّون عداءً متطرفاً لكل ما يحمل صبغة إسلامية منظمة، يدأبون على الخطاب الشعبوي، ويتعمدون خلط الحابل بالنابل في تناولهم لأمور المسلمين ومشكلاتهم.

وهؤلاء يعتبرون كل تكتل إسلامي، جملةً وتفصيلاً، وكل ما له ارتباط بالإسلام السياسي، دون تمييز، خطراً محدقاً يهدد النظام الديمقراطي الليبرالي، ولمّا كانت قضايا المسلمين كلأً مباحاً لكل من هبَّ ودبَّ، فإننا لا نجد أحداً يكلف نفسه عناء تقييم بضاعتهم في هذا الشأن، كما لا نجد أحداً يكترث لكون هؤلاء لا يمثلون سوى أنفسهم، خصوصاً أنّ ثمة من بات يلح على تقديمهم طرفاً بديلاً عن المنظمات الإسلامية؛ ليكون ممثلاً للمسلمين لدى الدولة والمجتمع.

يبدأ الدجل الذي يمارسه هؤلاء بذلك الوصف البرّاق الذي يطلقونه على أنفسهم، ويجعلونه خالصاً لهم من دون المسلمين، فاستئثارهم بوصف "الليبراليين" يوحي للجاهل بخبايا الأمور بأن خصوم هؤلاء من المنظمات الإسلامية يعادون ما يحمل ذلك الوصف من معانٍ وقيم. ويزيد من أجيج هذا الوضع حضورهم المكثف في الإعلام، وإصرارهم دوماً على طرح قضايا لا خلاف عليها، كاحترام الدستور، والمساواة بين المرأة والرجل، ونبذ التطرّف والإرهاب، والاندماج، وما شابه ذلك، في الوقت الذي يكتمون الناس فيه أن هذه القضايا كلَّها أمورٌ بديهية لدى المنظمات الإسلامية غير قابلة للنقاش، حتى يَخالَ المتتبع غير المسلم أن منظمات المسلمين تدعو إلى عكس ذلك.

وكغيرهم من الإسلاموفوبيين يحاول هؤلاء في أدبياتهم جاهدين إشاعة أن الفهم الشاذ للدين لدى أقلية متطرفة، هو الفهم السائد عند عموم المسلمين المتدينين، وقد فضح هذا التدليس آخر استطلاع رأي قامت به مؤسسة "برتلسمان شتيفنونغ" عام 2015 في هذا الشأن، أثبت أن 90 في المائة من المسلمين الملتزمين في ألمانيا يعتبرون أن الديمقراطية نظام حكم جيد.

وفِي الوقت الذي يُسمي فيه الإسلاموفوبيون من الإعلاميين، والسياسيين، والمثقفين، وأوليائهم من المسلمين الليبراليين الشعبويين عداءهم المنهجي إزاء الإسلام والمسلمين حرية رأي يكفلها الدستور، يضيقون ذرعاً بممارسة خصومهم هذا الحق، ويحاولون بشتى الطرق سد السبل أمامهم، وتكميم أفواههم، وقد بدا هذا واضحاً في معارضتهم الشديدة لحصول المنظمات الإسلامية على مقعد في مجالس الهيئات الإذاعية التي تضم ممثلين عن الطوائف الدينية الكبرى، والأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، بل وحتى عن منظمات الرفق بالحيوان.

لكن هذا لا يعني البتة أنّ كل الإعلام الألماني مُنحاز ومُجحِف، ولا كل خائف من الإسلام أو منتقد له عنصري أو حاقد عليه، فالمجتمع الألماني يظل، على الرغم مما ذُكر آنفاً، مجتمعاً ليبرالياً متسامحاً يتساوى فيه الناس أمام القانون، ويحظى فيه المسلمون كغيرهم – رغم الحيف الذي يطالهم في هذا الأمر أو ذاك – بحريات لا يحلمون بها في كثير من البلدان الإسلامية. ويبقى ارتفاع نسبة الخوف من الإسلام في أوساط المجتمع، في غالب الأحيان، أمراً طبيعياً متوقعاً من دون خلفية أيديولوجية أملتهُ عوامل محلية، وإقليمية، ودولية مثل أزمة اللاجئين، وهاجس الإرهاب عقب الأحداث التي شهدتها أوروبا أخيراً، والصراعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبشاعة تنظيم الدولة الإسلامية، وصورة الإسلام النمطية التي ساهم المسلمون أنفسهم في رسمها وترسيخها.

إن نَظر ألمانيا بعين الريبة والشك إلى بعض المنظمات الإسلامية المحسوبة على جماعات الإسلام السياسي العالمية كالإخوان المسلمين مثلاً أو التابعة لمؤسسات رسمية خارجية كمنظمة "دِيتيب" الممولة من وزارة الشؤون الدينية التركية أمرٌ مُبَرّر لا بد أن يحمل على محمل الجد، وألاّ يعتبر عنصرية أو عداء تمارسه مؤسسات الدولة والمجتمع على الإسلام والمسلمين، فلا توجد دولة على الإطلاق تقبل أن تتدخل قوى خارجية في شؤونها الداخلية أو أن تسمح لجمعيات خاضعة لقوانينها، وتحظى بدعمها للعمل من أجل تحقيق أجندة خارجية، لا ناقة لمسلمي ألمانيا فيها ولا جمل، ناهيك عن أن استيراد مشكلات العوالم الإسلامية إلى ألمانيا يُكرِّسُ انقسام المسلمين على أنفسهم، ويعمق الهوة بينهم.

إن العوامل والمعطيات التي أدت إلى ظهور هذه الجماعات في بلدانها الأصلية منعدمة في الغرب، واستيرادها يوحي إلى غالبية المجتمع بأن ولاء المسلمين ليس لألمانيا التي ما ينفكون يؤكدون أنهم جزء منها، وإنما هو، في الدرجة الأولى، لدول أخرى وأطراف خارجية يلفّها الغموض.

وسيظل هذا الأمر ثغراً مكشوفاً تستغله شبكات الإسلاموفوبيا والشّعبويّون للنيل بسهولة من الإسلام والمسلمين، ما دامت هذه التبعية مستمرة لم تنفصم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد