تذكرت -بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية- كلمة لأحد المستشرقين الألمان أشار فيها إلى أنه من الصعب أن تجد عالماً عربياً معاصراً يستطيع أن يكتب مقالة عن تخصصه بعربية فصحى صحيحة! وعلل ذلك بأنه قد ينتهي من تعليمه كله دون أن يتقن العربية، بينما هذا غير ممكن في ألمانيا، فطالب الجمنازيوم الألماني يستطيع أن يكتب بالألمانية عشرات الصفحات دون خطأ يذكر لا في الصياغة ولا في الإملاء.
ولأن كلامه كان صحيحاً وتوجد أمثلة كثيرة عليه لم أعلق، وقلت لنفسي: بالفعل أغلب العلماء والمثقفين العرب، سواء في العلوم الدقيقة، وربما في العلوم الإنسانية، لا يستطيع كتابة ورقة بحثية صغيرة بعربية صحيحة، والأمثلة كثيرة ومحزنة أيضاً.
أذكر مثلاً أنني حضرت احتفالاً بذكرى أحد الأساتذة المرموقين في جامعة قاهرية، وكانت الكلمة الرئيسية لابنته الأستاذة في الكلية نفسها، فلم تستطِع نطق كلمة عربية واحدة بطريقة صحيحة، فما بالك بالجمل والعبارات! حتى العمال انزعجوا لجهلها، فما بالك بالطلبة والأساتذة. ومشيت وأنا أقول لمن معي: إن هذا كان أسوأ إحياء ذكرى لأي أستاذ، وبالتأكيد أغلب الحضور دعوا عليه لا له!
وأذكر مرة أخرى أن أستاذة كبيرة لإحدى اللغات الأجنبية في إحدى الجامعات القاهرية كانت تريد التقدم للعمل في جامعة خليجية، واضطرت إلى أن تترجم دراسة لها بهذه اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية، وكانت تحتاج بالتالي لمن يراجع ترجمتها لدراستها، إحدى الصديقات – سامحها الله- دلتها عليَّ وأعطتها رقم تليفوني دون استئذاني؛ لأنه شغل كما قالت، وعندما جاءتني تلك الأستاذة وقفت أسفل العمارة ورفضت الصعود رغم وجود زوجتي والوالدين، وجعلت البواب يخبرني بالأمر ويترجاني النزول، قلت: لا بأس، ونزلت لها،
وأخذت منها أول دفعة من الأصل والترجمة، وأرادت أن تسألني عن التكلفة، فقلت لها سأرى أولاً، ثم أرد عليك تليفونياً. وعندما صعدت ونظرت في الأوراق دُهشت! النص الأجنبي جيد جداً، بينما لغتها العربية من أسوأ ما رأيت في حياتي، كأنها طفلة في المرحلة الابتدائية، بل أعرف بنات في الابتدائية يكتبن أفضل منها!
وتعجبت كيف مرّت بكل هذه المراحل التعليمية، ووصلت إلى هذا المركز الأكاديمي، وهي لا تعرف كيف تعبر بلغتها الأم عما كتبته بلغة التخصص الأجنبية؟! وقلت لنفسي: الرفض الآن غير ممكن، فلأذكر لها رقماً كبيراً حتى تهرب، واتصلت بها وسألتها: لماذا لم تبحثي عن مصحح لغوي عادي يصحح لك النص العربي فقط؟ فقالت: لأنك تعرف اللغتين، وهو ما أريده، أي أنها غير واثقة في دقة ترجمتها، فقلت في بالي: استحملي إذاً، وذكرت لها الرقم الذي تدفعه المؤسسات الأجنبية لمترجميها، وكان الغريب أنها وافقت، ولكن طلبت ألا أخبر أحداً! كأنها تتأذى من مستواها وتشعر بالعار، أو قد تخشى أن تعرف جامعة الدولة الخليجية بذلك.
وكانت تأتي وتبقى أمام العمارة، وأنا أنزل وأشرح لها أمام البواب وعائلته التعديلات والأخطاء، وأطلب منها أن تعرضها عليَّ في المرة التالية، وبعد مرة أو مرتين وجدت أنها لا تجيد تصحيح ما أصححه، فطلبت منها أن تتوقف عن الترجمة، وأن تعطيني النص الأجنبي كله، وأنا سأترجمه لها مباشرة إلى العربية، حتى ننهي هذه المأساة سريعاً، وبالطبع عزمت على ألا أعمل معها بعد ذلك.
ولكنني كنت وما زلت أتعجب منها كيف أنها كأستاذة معروفة في تخصصها ولكنها مسكينة إلى هذه الدرجة في اللغة العربية، وفهمت لماذا طلبة المدارس الأجنبية يبكون بحرقة في امتحانات اللغة العربية تحديداً!
ويمكن أن تقول إنني بدأت من هنا التركيز على ما سميته مأساتنا الأكاديمية مع لغتنا العربية، فالإنكليز والأميركان والألمان والفرنسيون إذا كتبت أي رسالة أكاديمية في جامعاتهم ومعاهدهم لا بد أن تكون بلغتهم حتى لو كنت مستشرقاً وتكتب عن اللغة العربية، والهدف بالطبع أن تستفيد منها الدولة التي تعطي الدرجة، أما عندنا فالوضع على النقيض تماماً، فأنت تكتب دراساتك في هذه الأقسام المصرية أو العربية لتفيد الإنكليز والأميركان والألمان والفرنسيين، ولا يهم بلدك صاحب الجامعة الذي كلف وعلم ووظف، وهذا لا يحدث إلا في الدول المستعمرة أو المستعبدة أكاديمياً.
ولو كان هناك إرادة لجعلنا مثل هذه الرسائل الجامعية على الأقل مزدوجة اللغة، أي مكتوبة مرتين؛ مرة بلغة التخصص، ومرة بلغتنا العربية، وتكون المناقشة باللغتين أيضاً، وهذا يقتضي بالطبع أن يكون الأكاديمي -مهما كان تخصصه- عارفاً بالعربية، ومتمكناً من الكتابة بها، وهذه هي المشكلة؛ لأنه كما قال هذا المستشرق، ندر أن تجد عالماً عربياً يجيد الكتابة بعربية سليمة عن تخصصه.
ومن هنا اقتراحي أو مشروعي بأن تكون هناك "شهادة كفاءة في اللغة العربية" لشاغلي الوظائف العليا، مثل القضاة والأكاديميين وقادة المؤسسات النيابية والثقافية وما شابه ذلك، وهذه الشهادة تشبه نظام الإيلتس أو التوفل، والأفضل أن تتبع الإطار الأوروبي (cefr)؛ لأنه أرحب وأشمل. وربما نبتكر نحن مع الوقت والخبرة نظاماً يخص اللغة العربية ونفرضه خارجياً، والمهم أن تطلب هذه الشهادة بدرجة محددة سلفاً مع أوراق التوظيف التي تطلب من المعيدين ومن المتقدمين لسلك النيابة.. إلخ، وبالتالي لن نجد قاضياً جاهلاً بالعربية، ولا أكاديمياً أو برلمانياً يهين شرف اللغة العربية على الهواء مباشرة.
وهذا يقتضي بدوره وجود مؤسسة لغوية جديدة وموثوقة ومستقلة تقدم دورات العربية الملائمة، وتحدد المستويات وتمنح الشهادات الموثقة المعترف بها محلياً ودولياً، وأعني هنا مؤسسة من قبيل المركز البريطاني أو معهد غوتة الألماني، وهذا يتطلب بالطبع عملاً مضنياً نظرياً وتطبيقياً حتى يتحقق، لكن أهم شرط -في رأيي- ألا يسيطر عليها أساتذة الجامعات؛ لأنهم سينقلون إليها أنماط الفساد الجامعي المعروفة، وأهمها الرشى الأكاديمية، وتبادل تعيين الأنجال والأقارب على حساب الكفاءات!
والحقيقة فإنني أعمل بشكل شخصي على الجانب النظري لمشروع كهذا، بمعنى المناهج وكيفية التدريس والتقييم.. إلخ، ورغم أنه عمل شاق متعب فإنه يستحق، ولو تحقق هذا بشكل مؤسسي ربما بعد جيل أو جيلين قد لا نجد قاضياً أو أستاذاً أكاديمياً إلا وقد أتقن لغته العربية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.