تجارة الأحلام في تونس

أخيراً سأتخلّص من والدي، اطمئنوا، لن أقتله كما أقول دائماً تحت تأثير المخدّرات، بل سنغادر المنزل أنا وأمّي، سنشتري واحداً آخر في مكان بعيد حتّى لا يقتفي ذلك المجنون أثرنا، أخيراً لن يبرحها ضرباً تحت ناظري لأتفه الأسباب، البارحة مثلاً عنّفها لمجرّد أنّها طلبت منه أن يكفّ عن شرب الخمر يوميّ

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/25 الساعة 03:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/25 الساعة 03:19 بتوقيت غرينتش

أي تشابه في الأحداث والشّخصيات ليس من محض الصدفة.

أذكر أنّ الصمت قد ساد المقهى كصمت بني إسرائيل حين قال فيهم عيسى ابن مريم عليه السّلام: "إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصّلاة والزكاة ما دمت حيّاً وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً"، كان الجميع ينظرون نحو التّلفازِ بأعناقٍ مشرئبّة، خمس ثوانٍ مرّت كأنّها خمس ساعاتٍ.. كان اللاّعب يتقدّم رويداً رويداً نحو الكرة، سدّدها لتمرّ بعيداً عن القائم الأيمن فيضيع على فريقه فرصة الانتصار وعلينا نحن فرصة تحقيق أحلامنا.

لنعد بالزمن قليلاً إلى الوراء، تحديداً قبل ثلاث ساعاتٍ..
كنتُ حينها قد غادرت المنزل على السّاعة الثّامنة مساءً ككلّ يوم باتجاه المقهى لأنظمّ إلى رفاقي هناك.

لم يكن يومها روّاد المقهى كعادتهم فقد بدا "عمّ صالح" ذاك العجوز الوحيد مبتسماً لأوّل مرّة منذ أن تخلّت عنه زوجته وغادرت رفقة ابنهما الوحيد حدود الوطن؛ لتلتحق بعشيقها المصري وتترك زوجها المسكين غارقاً في هموم أنقضت ظهره، فعمّ صالح لم يحتمل الصّدمة وأصيب بجلطة شلتّ على أثرها يده اليمنى وزاده عجزه عن استرداد ابنه أو حتّى رؤيته ألماً وحسرة؛ لننسى منذ ذلك اليوم شكل ابتسامته.. فالرّجل فقير، لا مال له ولا طاقة تمكّنه من أن يوكّل محامياً فذّاً أو يجوب المحاكم أو حتّى يسافر نحو مصر.

لكنّه يومها بدا سعيداً وما أن رآني حتّى عانقني قائلاً إنه قريباً سيرى ولده، قال:
"لا تقلق لن أزوره قبل أن أشفى.." استغربت، قلت في نفسي هل العجوز المسكين قد جنّ أم ماذا؟ ليقطع ذهولي ويقول بأنّه قريباً سيحصل على مبلغ مالي كبير، كبير جدّاً، سيخصّص جزءاً منه ليعالج يده وآثار مرضه، سيشتري سيّارة أجرة ويعود إلى عمله من جديد ثمّ سيقتطع تذكرة ليغادر باتجاه ابنه، قال إنّه سيوكّل أشهر المحامين ليعاقب زوجته ويستردّ طفله منها، وإنّه بعد ذلك سيشتري منزلاً كبيراً؛ ليعيش فيه مع ابنه، سيوفّر له أجمل الملابس وأفخمها وسيدخله أفضل المدارس الخاصة وسيحقّق له كلّ ما تتمنّاه نفسه.

وقبل أن أسأله عن مصدر الأموال قطع حديثنا "عمر" طفل مراهق لم يتجاوز السّتة عشر ربيعاً قائلاً والبهجة تعلو وجهه الحزين:
أخيراً سأتخلّص من والدي، اطمئنوا، لن أقتله كما أقول دائماً تحت تأثير المخدّرات، بل سنغادر المنزل أنا وأمّي، سنشتري واحداً آخر في مكان بعيد حتّى لا يقتفي ذلك المجنون أثرنا، أخيراً لن يبرحها ضرباً تحت ناظري لأتفه الأسباب، البارحة مثلاً عنّفها لمجرّد أنّها طلبت منه أن يكفّ عن شرب الخمر يوميّاً، دعنا من هذا الآن فأنا سعيدٌ جدّاً وقريباً ستنتهي هذه المأساة،

قريباً سأمكّن والدتي من أداء مناسك الحجّ كما أرادت دائماً ولن أواجه بعد اليوم مشكلة في توفير ثمن دوائها، ولا تقلق أنا أيضاً سأتغيّر كما طلَبتَ منّي دائماً، سأنتبه لدراستي ولن أرافق أولئك الصّبية المنحرفين ثانية حتّى إنّي صرفت النّظر عن موضوع الهجرة السّرّيّة، فأنا لا أريد لجثّتي أن تصير طعاماً للأسماك.

لم أصدّق الأمر في البداية، ظننت أنّي داخل حلم جميل، خاصة حين انضمّ إلينا نادل المقهى مرحّباً بي كما لم يفعل من قبل، فعادة ما يستقبلنا "علي" النّادل بوجه عبوس وألفاظ بذيئة لكنّه في ذلك المساء كان على قدر عالٍ من الأخلاق وكأنّه نادل بأحد المقاهي الفخمة.. قطع "علي" كلام "عمر" طالباً منّي أن أصبح أحد حرفائه عندما يفتتح مقهى على ملكه.

ابتسمت لكنّه بدا جادّاً في حديثه ووعدني بأن يذيقني أطيب مشروباته هناك وقال:
صديقي، أبشّرك بأنّي سأفتتح مقهى في حي راقٍ بعيدا عن هذه الزّقاق الملوّثة، نعم سأتحرّر من سيطرة ذلك المتعجرف -يقصد رئيس عمله- لن أضطرّ مجدّداً إلى تحمّل إهاناته ولا إلى أن أكون خادماً لأبنائه وزوجته فأنا لست مجنّداً مصريّاً.. ضحكنا واستطرد علي قائلاً: لن أكون مضطرّاً إلى كنس الأرضيّة ولا إلى خدمة هؤلاء السذّج -مشيراً بإصبعه نحو "عم صالح" و"عمر"- ليضحك ثلاثتهم.

هنا قتلني الفضول، من أين لهم كلّ هذه الأموال؟ ما الذي حصل صباح اليوم، هل قرّرت الحكومة أخيراً أن توفي بوعودها الانتخابيّة؟ أم أنّها اعترفت أخيراً بأنّ لأرضنا خيرات وثروات كثيرة وأنّها تعتزم توزيعها بالتّساوي على أفراد الشّعب؟ هل استرددنا أموالنا المنهوبة من الرّئيس المخلوع وحاشيته؟ ما الذي حصل بالضّبط؟

وبينما كنت غارقاً في التّفكير، دخل "حمّة" شابّ صاحب شهادة عليا في العلوم السّياسيّة، ولكنّه لم يجد بعد وظيفة، عُرِفَ في المقهى بتشاؤمه الدّائم، نظر إليَّ قائلاً إنه لا أمل في شعب سلبت الميسر عقله.

نظرت إليه في استغراب فقال: "ماذا؟ ألم تسمع عن موقع المقامرة الذي يحتلّ المراتب الأولى منذ أشهر في تونس؟" فهمت حينها مصدر أحلام عمّ صالح، عمر وعليّ.. وأيّدتُ "حمّة" ثمّ استسمحته بأن أجلس بمفردي قليلاً، وحين غبت عن أنظاره ناديت النّادل لأستفسره عن الموقع وكيفية المشاركة فيه، أذكر أنّ ضميري كان يؤنّبني وأنّ صوتاً بداخلي يحاول منعي عن ارتكاب إثم كبير لكنّ صوتاً آخر بداخلي قال: "يا رجل كبّر مخّك، انظر إلى الشّيخ محمد حسّان الذي أقام الدّنيا ولم يقعدها حين اقترض مرسي مالاً ثمّ صمت حين أتى السيسي نفس الفعل".

قلت للنّادل في خجل إنّي دائماً ما أردت أن أذهب إلى إيطاليا لأشتري حلماً من نافورة "تريفي" الجميلة، فصرخ في وجهي: "قل من البداية بأنّك تريد أن تجرّب حظّك في المقامرة"، ثمّ أشار بإصبعه نحو شابّ نحيل أشعث اتخذ من ركن في المقهى مقرّاً لعمله وقد وضع بجانبه حاسوباً وآلة طباعة صغيرة.. اتجهت نحوه بعد أن اخترت قائمة بأسماء الفرق التي توقّعتُ فوزها، ورميته بدينارٍ بين يديه كما يفعل متساكنو روما إذا ما وقفوا أمام النافورة، وجلست إلى جانب "عمّ صالح" نشاهد اللّاعب رقم عشرة يتلاعب بأمنياتنا.

في الدّقائق الأخيرة من المباراة تحصّل الفريق الذي راهنّا على فوزه على ضربة جزاء، كان تسجيلها يعني فوزنا!
أذكر أنّ الصمت قد ساد المقهى.. كان الجميع ينظر نحو التّلفازِ بأعناقٍ مشرئبّة، خمس ثوانٍ مرّت كأنّها خمس ساعاتٍ.. كان اللاّعب يتقدّم رويداً رويداً نحو الكرة، نظر إليَّ "حمّة" المتشائم قائلاً إنّها ستمرّ بعيداً عن القائم الأيمن، وفعلاً مرتّ الكرة بعيداً عن القائم الأيمن ليضيع فريق برشلونة فرصة الانتصار ويضيّع علينا فرصة تحقيق أحلامنا، ولينضمّ "عمر" ككلّ ليلة إلى أصحاب السوء ليدخّن المخدّرات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد