خرجتُ بلا عودة

ودّعتها في عيد ميلادي الثامن عشر، واحتفلتُ في الأعالي بين السُّحب، فلم أشأ حينها أن أكونَ مُتشائمةً لا متأملةً العودة، أو جحودةً تنسى النعمة، أو حتى قاسيةً تهوى الفُرقة، ولكني كنتُ أتأمَّل الموضوع بمنطقيةٍ مطلقة تكفيني لأقولَ بصوتٍ أجَش مخذول: "هذه البلاد لم تعد تصلح للحياة"، لم تعد تلائمني لأنموَ وأزهرَ وأنشرَ عبيري في أجوائها

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/21 الساعة 02:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/21 الساعة 02:24 بتوقيت غرينتش

أذكرُ حين بدأتُ بحزمِ حقائبي للسفر وجمعِ أمتعتي، كيفَ مرَّت عليَّ الكثيرُ من الذكريات، الكثيرُ من الصور، الكثيرُ من الرسائل، والكثيرُ الكثيرُ من الحكايات بجانبِ كلّ زاويةٍ من غُرفتي، كنتُ على يقينٍ بأنه لا مجالَ للعودة إلى الوراء ندماً، وأنَّ هناك أرضاً أخرى سأكملُ فيها ما تبقّى لي من الأيام، وسأبني عليها ما امتلكتُ من العزمِ والإصرار.

ودّعتها في عيد ميلادي الثامن عشر، واحتفلتُ في الأعالي بين السُّحب، فلم أشأ حينها أن أكونَ مُتشائمةً لا متأملةً العودة، أو جحودةً تنسى النعمة، أو حتى قاسيةً تهوى الفُرقة، ولكني كنتُ أتأمَّل الموضوع بمنطقيةٍ مطلقة تكفيني لأقولَ بصوتٍ أجَش مخذول: "هذه البلاد لم تعد تصلح للحياة"، لم تعد تلائمني لأنموَ وأزهرَ وأنشرَ عبيري في أجوائها، بتُّ أشعر بالخنقة بين ساكنيها، بتُّ أرى ناراً توقدُ أحلامي؛ لتجعلَ من دُخانِها خبراً للصُحفِ والإذاعة، بتُّ أنامُ لا آمنُ مكرَ جنودها، أو حقدَ جيرانها، بتُّ حبيسةَ الرصاصِ والمواجع، حبيسةَ قائمةِ الوفيات وعددِ الجرحى في كل انفجار.

لا أدري أين ألتفتُ بعيداً عن الموتِ والحياة!
لا أدري أين أتجهُ قريباً من الحلمِ والأمنية!
بعيداً عن القلق والخوف، قريباً من السلامِ والأمن!
كثيرون هم مَن غادروا أرضهم وغادروا أنفسهم معها، فلم تزِدهم هجرتهم إلَّا سوءاً، ولم ينضحوا إلَّا تخبطاً وفوضى، آلمهم البعد واستمر الألم واستمر حتى أصبحَ جُزءاً من حياتهم اليومية يتفقَّدونهُ كل ليلة كما يتفقَّدونَ أموالَهُم وأبناءَهُم ويداوونَه بالتي هي أدنى.

لم تلائم بلادُ الجوار الكثيرَ منَّا لا شك، بسبب اختلاف اللغة أو الثقافة أو الأنظمة أو حتى مجرَّد عدم الشعور بالراحة بين ساكنيها، فشعور الغربة يبدأُ بالتغلغل في المرء شيئاً فشيئاً حتى الأعماق، وهذه القناعة قد خُتمت في عقول البشر منذ زمن ليس بالقليل.

ليتَ هذا الختم على جواز السفر قد أُرفقَ وبالخط العريض -قابل للتأقلم والتعايش- ليتَ ذاكَ كانَ مفهوماً لدى ثلَّةٍ لا بأسَ فيها لكانت حينها الهجرةُ سبباً لا نتيجة!
سبباً للتقدمِ والتغيير لا نتيجةً للتخلفِ والعنصرية، سبباً للتفهُّمِ والوعي لا نتيجةً للاختلافِ والجهل، سبباً للإحسانِ والمحبة لا نتيجةً للرجعيةِ والحقد.
أن نخرج لأجل.. لا بسبب.. أن نخرج لغاية لا هرباً من رصاصة وحسب!

حين خرجت لم أحمل معي شيئاً من ذكريات المكان والزمان، فقلبي قد فاض منها بما يكفي لاستمرار الحياة، والأيام القادمة لا تحتمل المزيد منها، الأيام القادمة لا تحتاج قلباً يئنُّ ويبكي مواجعه كلما هبَّت ريحُ أيامهِ الخوالي، بقدَرِ ما تحتاجُ نفساً عازمة مطمئنةً، عقلاً متقداً، قلباً وفياً صادقاً، فكراً واعياً، وعزيمةً لا تلين.

بالطبع لقد احتجتُ مخزناً جديداً الآن لأملأَ فيهِ الذكرياتِ الجديدة والخبرات والتجارب الفريدة التي لا تفوَّت، ولكنِّي رفضتُ حتَّى آخر لحظةِ وداع أن أصحبَ معي أيَّاً من تلكَ الأيام.

لا أدَّعي أني كنت بكاملِ القوة والصرامة، فقد فاضتْ دموعي على ضفافها بصمتٍ مُحرِق حينَ قرأتُ عبارة: "المغادرون" على أحدِ أبوابِ المطار الكبيرة التي توجَّب عليَّ دخولها، فرددتُ في نفسي قولَ رسول الله على أسوار مكة في الهجرة: "لولا أن قومي أخرجوني منكِ ما خرجتُ منك أبداً"، شعرتُ بعدها بمسؤولية رهيبة زلزلت عظامي مُذ وطئتْ قدمايَ الطائرة حتى لحظتي هذه، سرّها أني تمثلت هجرةَ النبي للمدينة والعبء الذي أدركه في طريقه إليها.. ولعلَّني حاولت الاقتداء به بعدما عشت بعضاً مما عاشه.

هل جاءنا تصريح يوماً بأنَّ من يرثُ الأرض يرِثُها في وطنه! وأنَّ خليفة الله في أرضهِ لا يكونُ إلا في موضعِ ولادته ورضاعته!
مَن قال إنَّ النجاح في بلاد الجوارِ خيانةٌ عظمى للوطن؟!
ومن قال إنَّ إحساني في بلادِ الغربِ كُفرٌ ونفاق؟!
بل ومَن قال إنَّ وطني أحقُّ من غيرهِ ببركةِ الإنجاز! وإنَّ مُكوثي في غيره كانَ أياماً ريثما يُشفى من سقمه! أمَا فتحَ رسولُ الله مكةَ وعادَ للمدينة ليُدفن فيها؟! ألم يكن شغوفاً بحب مكة؟! ألم تكن أحبَّ بقاع الأرض إلى قلبه؟! ألم يذرفِ الدمعَ حينَ ودَّعها؟! فَلِمَ أسسَ بناء الإسلامِ في المدينة إذاً؟!

لِمَ لَم يعُد نبي اللَّه يوسف إلى دياره بعدما مُكَّنَ له في مصر؟! بل ولِمَ قد أحضرَ أهلهُ إليها؟! وجعل الإمارة فيها؟!
أن نهاجرَ لله لا يعني فقط أن نتركَ ما نهواه لأجلِ البحثِ عنه مدى الحياة، لا يعني أن نمحو آثارَ الوطن من قلوبنا وذكراه، بل أن نكون سفراء حقيقيين لهذا الوطن الذي غذانا قوة رغم الجرح.

فالعطاء لا يقاس من أين جئت وإلى أين ستعود، ولكن يقاس بماذا قدمت وماذا فعلت؟ وماذا دفعت لاسترداد ذاك الوطن الحزين الذي بيعَ بالرخيص؟
ثمن العودة غالٍ لا تشتريه دموعُ المحبين، ولا آهاتُ المشتاقين.. وطائرات العودة لن تحمل مَن عاد كما خرج، وأبواب القادمين لن تستقبل من لم يأتِ بتغيير مُثبتٍ في نفسه وعمله لا بلسانه.

هناك وطنٌ بائسٌ يكاد يمحى من الخريطة، هناك أرض تحتاج عودتنا لرسم حدودها بأيدينا، ووضع بصماتنا في أرضها، وتوريث قيمنا الحسنة لأبنائها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد