ختم الإمام البخاري -رحمه الله- كتابه العظيم الصحيح بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ".
وروى في ثنايا صحيحه حديثاً آخر عن أبي هريرة مرفوعاً: "مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ".
يا الله! أيُّ ذنوب هذه التي تكثر وتتراكم ثم تذهب في لحظةٍ واحدة مثل زبد البحر؟!
اللهم لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك.
جعلت من همي في تَعرُّفي إلى الله تعالى، السعي الدائم إلى استحضار قربه ومعيَّته وإحاطته وشهوده، والسعي في الوقت ذاته إلى نفي جميع الصور المحددة والخيالات التي تخطر على بالي كلما ذكرته أو تذكرته، فهي صور بشرية بدائية ساذجة؛ تنتمي إلى عقلي الواهن المحدود الذي صُمم ليفهم تلك المعاني ويعقلها لا ليتصورها وكأنه يراها بناظريه.
وحين قال -عليه الصلاة السلام: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ "، قصد -والله أعلم- استشعار القرب، وتحقيق معاني الأسماء الإلهية العظيمة الجميلة دون تخيل الصور التي ترد على المخيلة أو اعتمادها، ولذا قال العلماء: "كل ما خطر ببالك فالله ليس كذلك".
وهذا معنى "التسبيح"، أي: التنزيه والتقديس والاعتقاد بأحدية الله وتفرده عن عباده، لايقاس إليهم ولا يماثلهم ولا يخطر على قلوبهم وصف كيفيته ولا تصورها {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].
ذُكر التسبيح في القرآن الكريم سبعاً وثمانين مرةً بصيغٍ مختلفة.
سورة الإسراء تُفتتح بـ"سُبْحَانَ"، وهو مصدر يعني التنزيه المطلق التام لله عن كل صفات النقص والعيب والخطأ والزلل والجهل، وإثبات أضداد ذلك من الكمال والجلال والجمال والعظمة والعلم والرحمة والحلم والفضل..
تبدأ بالتسبيح؛ لأنها تتحدث عن أمر خارج عن سنن الحياة العادية وعن قدرات البشر، إنها تتحدث عن الإسراء من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، ثم العروج إلى السموات العلى، وهو أمر إلهي محض لا يدخل تحت قدرة البشر.
وتُختتم بالتهليل والتكبير والتحميد، فكأنها منزع الكلمات الأربع: "سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ"، فآخر السورة: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ}، وهذا معنى "لا إله إلا الله"، {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
وحين ذكر النبي هذه الكلمات قال: "لاَ يَضُرُّكَ بَأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ"، مع أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بـ"سُبْحَانَ اللَّهِ".
في القرآن الكريم سور تُفتتح بـ{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، فهي تتحدث عن تسبيح تم وكَمُل ومضى وانقضى.
وسورٌ أخرى تفتتح بصيغة: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، فتتحدث عن تسبيح مضارعٍ يحدث الآن ويستمر ويدوم .
وسورة تُفتتح بـ{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وهو أمر يقتضي حدوث التسبيح في المستقبل.
فالتسبيح شامل للأزمنة الثلاثة؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
الكون كله مندمج في تمجيد الله، فكيف نشذّ نحن عنه ونظل في غفلاتنا؟!
ثم نستغرب بعد ذلك أن يقتلنا القلق والخوف واليأس!
وحين نَزَلَتْ "فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ"، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ". فَلَمَّا نَزَلَتْ "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى"، قَالَ: "اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ" "رواه أحمد، وأبو داود، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
ولذا، تسمى الصلاة "سُبحة" بضم السين؛ لكثرة ما يردد العابد فيها من التسبيح، ولو كان بألفاظ متغايرة؛ فالذكر نوعان:
1- نفي للنقائص والعيوب والخيالات البشرية عن الرب العظيم المتفرِّد.
2- وإثبات للكمالات والفضائل والجمال والجلال والعظمة والكبرياء والمجد.
في سورة الإخلاص مثلاً، تسبيح وتنزيه وتقديس كقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، وهو نص عظيم يُذكّر المؤمن بتنزيه الله عن مشابهة خلقه أو مماثلتهم، فلا تضرب له الأمثال، ولا يدركه الخيال، ولا يخطر ببال.
وفيها الإثبات وهو: {اللَّهُ أَحَدٌ}.
وفيها ما هو مركّب منهما وهو: {اللَّهُ الصَّمَدُ}، فهو يعني نفي مشابهة الخلق، ويعني إثبات الكمال في الصفات، ويعني أنه غني بذاته لا يحتاج إلى أحد، ولا يحتاج إلى شيء، والكل محتاج إليه.
من شأن الإنسان إذا تحدث عن أحد أو وصفه أو ذكر شيئاً، فإنه يتداعى إلى ذهنه تصور أو خيال، ناتجٌ عن مقارنة هذا الشيء الذي يتحدث عنه بالأشياء التي يعرفها ويعرف الألفاظ الدالّة عليها، وهذا طبعٌ في العقل البشري لا يكاد ينفك عنه.
ولذلك، وقع للبشر في تاريخهم من ألوان الشرك ما وقع، وغالب هذا الشرك ناتج عن تشبيه الخالق بالمخلوق أو تمثيله أو تصويره أو قياسه عليه أو إعطاء الربوبية لشيء من المخلوقات المادية. ولذلك، كثر في القرآن الكريم الحديث عن تنزيه الله وتقديسه، فالله تعالى لا يُقاس بخلقه ولا يُقاس به خلقه، والتسبيح الدائم هو نفي للتصورات والتهيؤات والتخيُّلات والخطرات التي تخطر في بالنا حينما نتحدث عن الله أو نقرأ عنه.
ولذلك، قال في سورة الصافات: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 159-160]، وفي آخر السورة: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 179-181].
يُنزّه ويُسبح عن أوصاف البشر الذين وصفوه -تعالى- بما لا يعلمون وما لم يوقفهم عليه خبر من السماء على لسان أحد الأنبياء، فكل وصف لله تعالى على غير ما جاء في الوحي فهو تَقوُّلٌ وافتئاتٌ ورجمٌ بالغيب. ولذلك، قال: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، يعني من الأنبياء وأتباع الأنبياء؛ الذين آمنوا بالله ورسله ووحيه وصدَّقوا المرسلين وقالوا عن ربهم ما قاله أنبياؤهم ورسلهم دون تجاوزٍ أو اعتداء.
ومن المعنى: تنزيه الله وتسبيحه عما تصفه خواطر البشر، وعقولهم الكليلة، وأذهانهم العليلة، وعجزهم الظاهر، وخيالهم البسيط الساذج.
له الأسماء الحسنى؛ التي تفرَّد بمعانيها وحقائقها وكمالاتها، لا تقاس بما عليه الخلق، ولا يجوز أن يرسم الإنسان لها صورة معينة في ذهنه، كل الصور منفية، وحقيقة الصفات والأسماء غير مدرَكة للبشر، ولكنهم يملكون الإيمان بها، ويملكون تصور أنفسهم وضعفهم وافتقارهم وحاجتهم الذاتية إليه سبحانه، فيقع لهم الخشوع والخضوع والذل والانكسار بين يديه.
هذا التسبيح الذي ينجو به العبد من الأزمات والمضايق والمحن، ويخلص من الهموم والغموم والأحزان؛ كما نجى يونس من بطن الحوت: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143-144].
هموم الفرد في رزقه، ومعاشه، وعلاجه، وزوجه، وولده، ووظيفته، ومستقبله..
وهموم الشعب والأمة في السعي للتفوق، والتنمية، والنهوض، والنجاح، ومواجهة تحديات الحياة..
إن قمة الإيمان والتوحيد هي قمة الإثبات والتجريد، فالإثبات يعني الإيمان بالإله الخالق الرازق العظيم؛ الذي يُغيِّر ولا يَتغيَّر ولا يعجزه شيء.
والتجريد يعني السمو والتّرقِّي عن تشبيه هذه الصفات والأسماء بما عهدناه وألفناه في كوننا وحياتنا ووفق بيئاتنا وما حولنا.
العقل البشري مصممٌ خصيصاً للتعامل مع الكون، وحين يعمل في حقله يصنع الإبداع والإنجاز، ويأتي بما يبهر ويذهل من الابتكار والكشف. وبهذا، عظمت حضارة الإنسان وتراكم خيرها ونفعها وتيسيرها للحياة.
وهو عاجزٌ عجزاً حقيقياً تكوينياً عن أن يعمل في نطاق الغيب، بما هو أكثر من الإثبات، فهو عاجز عن تصور يوم القيامة على حقيقته، وتصور الصراط، والميزان، والجنة والنار، وتفاصيل ذلك اليوم الطويل العصيب، وإنما يؤمن العبد المؤمن بما جاء في القرآن والسنة ويُفوّض كيفية ذلك إلى الله، وهو القائل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وفي الجنة "مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، و"ليس في الجنة مما في دنياكم إلا الأسماء".
إن كثيراً من الشُّبهات التي تغشى شباب اليوم، وتدور في مخيلاتهم، وتجري على ألسنتهم؛ ناتج عن تشبيههم وتمثيلهم وتصويرهم أمور الغيب على أمور الشهادة، وقياسهم ما غاب على ما حضر، وظنهم أن في مقدور عقولهم ومخيلاتهم تصوُّر أمور الغيب والآخرة وفق ما عهدوا وألفوا، فيترتب على ذلك، الإحساسُ بالتناقض والاختلاف، أو عدم الاستيعاب أو عدم الفهم، ولو أنهم أدركوا أن لذلك الغيب قدسيته وقوانينه، ونواميسه وسننه، ومعانيه وألفاظه.. التي لا يدركونها إلا إذا رأوها؛ لسَلِم لهم يقينهم وإيمانهم من الشبهات المُرْدية.
أسمى درجات الإيمان، أن تُسَلِّم وتصدق بخبر الله وخبر الوحي المتواتر القطعي الثابت، وفي الوقت ذاته تجرّد هذه الأخبار من التخيُّلات والكيفيات المعهودة في العقل والحياة.
أصابني أرقٌ عارض بسبب ضيق عابر، فقال لي صديق: إذا آويت إلى فراشك فاندمج في تسبيح دائم ولا تنشغل بعدده، قل: سبحان الله سبحان الله.. حتى تتعب.. حتى تنعس.. حتى تنام!
قلت له: أَوَلَيْسَ القرآن أفضل وأولى؟
قال: بلى، ولكن القرآن يحتاج إلى استحضار وتركيز، بينما التسبيح كلمة واحدة ترددها عشراً ومائةً وألفاً وما شاء الله حتى تغلبك عيناك، ولو خطر لك سرحان أو شرود.
وتذكَّرت حديث المؤمنة الصِّديقة فاطمة بنت محمد حين احتاجت خادمة فقال -صلى الله عليه وسلم- لها ولبعلها الإمام علي رضي الله عنه:
"أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ، إِذَا آوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا، أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ" [كما في البخاري ومسلم].
يا من تعانون المشقات في أعمالكم وصحوكم!
ويا من تشتكون الأرق عند نومكم!
يا من تعايشون القلق في يقينكم!
يا من تتذمَّرون من هجوم الناس عليكم وتعرّضهم لكم بغير حق!
هذا الوِرد العذب الزلال
هذا المنقذ من الضلال.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.