الحياة ما طاب وما لم يطِب

في ناحية أخرى، نرى البعض الآخر كالمدعوين إلى حفل تأبين.. صمت تام، وحزن يعم الأرجاء.. وألوان داكنة، تؤكد تواجدهم في مناسبات حزينة.. أما الطعام فبسيط ومعروض على أطباق أكثر بساطة، باختيارات محدودة، تقدم على موائد الجلوس، والاختيار الوحيد الذي يملكه الجميع: الأكل أو الامتناع.

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/19 الساعة 03:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/19 الساعة 03:37 بتوقيت غرينتش

خلال مشوار حياتي البسيط حضرت بعض المناسبات السعيدة والحزينة، وكنت في كل مرة أتأمل فيها ما يدور حولي ألاحظ أن أحداثنا تشبه بعضها، وكل ما نعيشه قابل للتحليل والمقارنة والاستنتاج.

كثير منا بل كلنا كنا مدعوين ولو لمرة، لحفل زفاف أو عقيقة أو تَخرُّج أو غيرها، ونعمنا بما لذ وطاب من مأكولات تقدم على موائد متقنة التزيين، وكان كل من حولنا يسعى جاهداً لملء طبقه بما تشتهيه نفسه من الطعام بشتى أنواعه، فترى هذا يكثر من اللحوم والحلويات، وآخر يفضل أن يتناول ما يراه أفيد لصحته من فواكه وخضراوات، والبعض يكتفي بسلطة خضراء، مقَيداً بحالة جسده المريض، رغم أنه يشتهي غير ذلك مما زخرت به الموائد أمام عينيه.

الاختيارات هنا متاحة للجميع، ولكن كل شخص يختار ما يناسب رغبته ويرضي طموحه، ويوافق احتياجاته وقدراته.. ومن لم يحسن الاختيار، أصيب بتخمة، وتضررت معدته، وكانت النتائج غير محمودة جسدياً ونفسياً.

عند البعض، ممن ألف رغد العيش.. تشبه الحياة هذه المناسبات السعيدة.. بطعامها الشهي المتنوع، وموسيقاها الصاخبة، وأجوائها اللطيفة، وألوانها الزاهية.. وكل ما يشتهونه معروض أمامهم، في انتظار أن يلبي رغبات وليدة لحظات، تختلف بتعاقب الساعات والأيام.. شريطة أن يتقيدوا بما تفرضه عليهم احتياجاتهم الحقيقية، ولا يتجاوزوا قدراتهم على التلقي، وأن يتجنبوا كل ما يحرمه عليهم الدين، وتردعهم عنه القوانين.. أما من ابتغى غير ذلك، دفع ثمنه لاحقاً من جيبه الخاص.

في ناحية أخرى، نرى البعض الآخر كالمدعوين إلى حفل تأبين.. صمت تام، وحزن يعم الأرجاء.. وألوان داكنة، تؤكد تواجدهم في مناسبات حزينة.. أما الطعام فبسيط ومعروض على أطباق أكثر بساطة، باختيارات محدودة، تقدم على موائد الجلوس، والاختيار الوحيد الذي يملكه الجميع: الأكل أو الامتناع.

إن أعملنا ألبابنا، وتفكرنا في طبيعة الحياة، سنلاحظ أنها تلقي بتشبيهات مصغرة عن نفسها هنا وهناك؛ كي نستطيع أن نتذكر في كل ظرف من الظروف أننا لا نعيش لمجرد العيش، وأننا لسنا هنا إلا ضيوفاً، سينتهي وجودنا بانقضاء فترة الحفل، وسنندم عند العودة، على كل اختيار خاطئ قمنا به،
حين اتبعنا شهواتنا مغمضي العقل والبصيرة، والمسكين الذي كان الاختيار أمامه محدوداً، وعاش لحظات حزن لم ينعم خلالها بتذوق ما طاب، ربما كان أفضل حظاً ممن كانت رغباته الجامحة أقوى من قدراته، وأكبر من عدد الاختيارات أمامه.

نلاحظ أن النفوس تتشابه وتتباين، فرغم أنها تشتهي الأفضل دائماً فإنها تختلف في قدرتها على كبح جماح نفسها، فمنها القنوعة ومنها الطموحة ومنها الطماعة، التي لا تكتفي، ولسان حالها يستمر في قوله: "هل من مزيد؟".

أما القناعة ففضلٌ، والطموح محمود، والطمع مذموم غير مرغوب، ماؤه المالح يروي العطاشى، ويرميهم جانباً بلا ارتواء، كلما نهلوا منه لهثوا، وانقطعت أنفاسهم في ركضهم كالسكارى خلف أسراب أمانيهم المادية، التي لا ترتقي مهما تحققت وتظل مرتبطة بحضيض الواقع.

القناعة بما نملك أَولى من التذمر وإلقاء الشكوى في كل مجلس ومقام، والطموح إلى تحقيق الأفضل والارتقاء بالذات وبالغير إلى مراتب السعادة والاطمئنان، أفضل هدف قد يسعى إليه الفرد؛ كي يثبت أنه حي، وأن مكانه في المجتمع يوجد في قمرة القيادة.

الحياة سعادة وألم، وشخصياتنا لن تُبنى إلا بمجابهة التحديات والمصاعب، لتزداد قوة وصلابة، فالعيش ليس رهيناً بما طاب من الحياة، ولكن ما لم يطب لنا حين تذوقناه، ربما كان أنفع وذا فائدة أعظم على نفوسنا، وما كان شديداً علينا حين واجهناه، جعلنا أشدَّ عليه حين يعاودنا، فالطعنات المتكررة تقوي مناعتنا، وتقوِّم ظهورنا التي أحْنتها الشهوات.

استمتعوا بالمناسبات السعيدة، واستقوا العبرة من كل حزن يزوركم.. راكموا التجارب، وأرصدوها في خزائن الخبرة.. واعلموا أن أفضلنا، أغنانا رصيداً.. ووزعوا صكوك الحكمة، بين من يسعون للتعلم.. وإن أصبتم فأنتم خير الناس، وإن أخطأتم فأنتم خير الناس، ما لم تقترفوا نفس الأخطاء، وكونوا كعقارب الساعة التي كلما مرت بنفس المكان، غيرت الزمن وخلقت أحداثاً جديدة، ولا تكرروا أنفسكم، ففي التجديد حياة، وفي النمطية دفن لها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد