لا شك أن القراءة هي الباب الأوسع للولوج في عالم المعرفة، ولكي يستفاد من القراءة بالشكل الأمثل، هناك مجموعة من الطرق والأساليب والنصائح التي يوصى بها؛ لكي تتحقق الاستفادة القصوى ونصل إلى الهدف المنشود.
هذه المقالة هي الحلقة الثانية من سلسلة الأخطاء المنهجية التي يقع فيها القراء، والتي آمل أن يكون فيها النفع، وأن تأتي بشيء جديد.
قبل الدخول في صلب الموضوع لا بد من التنويه بنقطتين مهمتين:
النقطة الأولى: لتمام الاستفادة أوصي بقراءة المقال الأول من هذه السلسلة (أخطاء منهجية يقع فيها القراء (1): هل المكتوب مبين من عنوانه؟).
النقطة الثانية: هذه المقالات ليست كتاب إرشادات مبوباً عن طرق القراءة وأساليبها، وليست ترجمات لكتاب معروفين في هذا المجال، إنما هي خبرات عملية ممزوجة بوجهة نظر شخصية قد يشوبها العيب وقد لا تسلم من الخطأ، وهي أقرب إلى التوصيات الشخصية التي يوجهها الأصدقاء المقربون إلى بعضهم البعض حيال موضوع ما؛ لذا قد يستشف منها بعض القراء لمسةً من العاطفة المصاحبة للمعلومة، كما قد يلحظ آخرون وجود مصطلحات لم يألفوها في تلكم الكتب المشار إليها سابقاً، بينما قد يقرأها آخرون على أنها مقالات أدبية أكثر منها علمية طرقية، وقد تكون كذلك.
بين القراءة الأفقية والقراءة العمودية
أذكر في بدايتي للقراءة أني كنت شغوفاً بمطالعة أي شيء يقع بين يدي لدرجة أنني، على حداثة سني، قرأت المطويات المرفقة بعلب الدواء بالعربية والإنكليزية مع أني لم أكن أفهم منها شيئاً، لكنه الشغف للقراءة والعشق للكلمة الذي قد يجري من بعض القراء مجرى الدم.
وبحكم أن القراءة والعلم كانا آخر ما قد يفكر به أحد من عائلتي فقد كان من العسير الحصول على مواد للقراءة بمختلف أشكالها المطبوعة كالصحف والمجلات لا سيما الكتب، وكانت الكتب القليلة التي ما زالت تركن هادئةً في (كتبية) جدي لوالدي -رحمه الله- مقيدةً بسياسة عدم المساس فقد حوت كتباً من الطبعات النادرة ولم أستطع الوصول إلا إلى النزر اليسير من تلك الكتب، وكان أول ما قرأته منها (حي بن يقظان) وبعض الدواوين لشعراء جاهليين وإسلاميين.
ومع مرور الوقت وانتقالي إلى المرحلة الإعدادية وجدت فضاءً أوسع من الكتب التي تعفنت في مكتبة المدرسة التي لم تعتد أقدام الطلاب أو المدرسين أن تطأها، وهنا بدأت مرحلة التمايز الفكري فقد لاحظت ميلي إلى القضايا التي تتعلق بالتاريخ وبجغرافيا العالم الإسلامي وقضاياه والأقليات والمجتمعات المسلمة، ورغم أني قرأت في الفترة ذاتها عن حيوانات ما قبل التاريخ ونظريات التطور والعصر الطباشيري وإنسان نياندرتال إلا أني لا أذكر من تلكم المقروءات شيئاً إلا معلومات متباعدة هنا وهناك بينما ما زلت أذكر قراءاتي الأولى عن شعب (مورو) المسلم في جنوب الفلبين، وما زالت صفحات إحدى المجلات التي تعود إلى سنة 1979، والتي تتحدث عن قبائل (الباتان) في غرب باكستان عالقة في ذهني، بل وأذكر أن كاتب المقال كان الأستاذ (فهمي هويدي).
مع غياب الرعاية والوعي ضاعت طاقات كبيرة وساعات طوال في قراءات لا أقل من وصفها بعدم النفع، ليس لأن هناك مجالاً معرفياً أنفع من مجال آخر بل لأن الدخول العشوائي في عالم القراءة في مجالات متعددة وفي مستويات عالية من الاختصاص لن يؤتي أكله.
ومع اتساع دائرة القراءة الأفقية دون التركيز على القراءة في مجال ما قراءةً عموديةً لن يكون للقارئ بعد ذلك الجهد الطويل والمضني حقل يتمكن فيه من التحرك بيسر، وستبقى ثقافة المرء عبارةً عن معلومات متباعدة لا تؤسس لفائدة مرجوة بله عطاء مستقبلي.
فعند اختيار كتاب ما هناك أمور يجب الالتفات لها:
– مستوى اختصاصية الكتاب: أي هل هو للمختصين في المجال أم لعموم الناس وسأضرب مثالاً على هذا في مجال التاريخ؛ لأنه من العلوم التي تقرأ بكثافة من عموم الناس على اختلاف مستوياتهم. فهناك كتب تاريخية كثيرة منها ما يسهل قراءته لغير المختص ومنها ما قد يصعب، فكتب الدكتور السرجاني تختلف تماماً من حيث الأسلوب والفائدة عن كتب الدكتور الصلابي، وكتب الأخير تختلف منهجاً عن كتب الدكتور يوسف العش أو الدكتور سهيل زكار.
– إن توسيع دائرة القراءة الأفقية دون انضباط لا يعني بالضرورة الحصول على معرفة أو ثقافة أكثر؛ لأن العقل البشري محكوم بالنسيان فإن لم تكن هناك قراءات رافدة متجددة في مجال ما ستضمحل تلك المعلومات وسيكون مصيرها النسيان؛ لذلك على المرء أن يحدد قائمة اهتماماته وهذا ما سأشرحه في النصف الثاني من هذه المقالة.
– لا بد لكل شخص من قراءة عمودية في مجال بعينه (أو مجالات بمستويات مختلفة)؛ لكي يكتمل النفع لديه، ولكي يستطيع نفع غيره.
بين دائرة الاختصاص ودائرة الاهتمام ودائرة التثقيف
في خضم القراءة اليومية المستمرة لسنوات، خاصةً عند القراء النهمين، أو (ديدان الكتب) كما يفضل الإنكليز تسميتهم، قد يمر المرء على مئات الكتب وآلاف المقالات البحثية وعشرات الآلاف من المقالات الصحفية. وميل الإنسان لحقل معرفي معين يكثر فيه القراءة منهياً فيه الكتاب تلو الآخر يضعه بشكل طبيعي في دائرة الاختصاص. والقراءة المتكررة في المجال ذاته هي القراءة العمودية التي تؤدي إلى زيادة المعلومات بشكل مكثف ومطرد في مجال واحد وبشكل تراكمي لفترة طويلة.
ولكن حتى أولئك الذين يقرأون عمودياً في مجال ما ويقتلونه بحثاً لا بد لهم من مجال، أو مجالات، رديفة يقرأون فيها أيضاً بشكل منتظم لكن ليس بالوتيرة ذاتها، وقد يكون مرد هذا إلى حقيقة أن المعرفة كل واحد ولا بد لدراسة مجال علمي من دراسة المجالات الأخرى التي تتقاطع معها أو لأن للقارئ ميولاً متعددةً، وهذا ما يسمى بدائرة الاهتمام وهي أوسع من دائرة التخصص ولكنها أقل كثافةً والقراءة العمودية فيها أقل نسبةً.
أما الدائرة الأوسع التي تجمع كلتا الدائرتين السابقتين وتضيف لهما قراءات كثيرةً في مجالات مختلفة فهي دائرة التثقيف، وتشمل كل ما يقرأ بغرض المتعة والترويح عن النفس والتثقيف الموسع وقد تتسع هذه الدائرة عند بعض القراء لتشمل عشرات المجالات المعرفية والحقول العلمية بدرجات متفاوتة.
فعلى القارئ الفطن أن يتنبه إلى تصنيف ما يقرأ ويضعه موضعه، وأن يقدم كتاباً على آخر، أو أن يمتنع عن قراءة الكتاب الذي يقع في دائرة التثقيف، إذا ما أبطأ في رفد دائرة التخصص، وهذا التفضيل سيورث أثراً واضحاً في المستقبل على المديين المتوسط والبعيد.
وسيساهم في بناء شخصية مثقفة متوازنة قادرة على النفع والانتفاع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.