من القصص التي حَفرت في ذاكرتي أثراً لا أنساه، ما حدث مع أحد أصدقائي منذ زمن بعيد، حين بدأ بدراسة الفقه الشافعي عند أحد شيوخ المذهب في عمّان. وبعد فترة وجيزة من بداية تلقِّيه، شق كثيراً على هذا الشاب تطبيقُ آراء المذهب في بعض المسائل، وعندما صارح شيخه بذلك، نصحه الشيخ بأن ينتقل إلى دراسة المذهب الحنفي -عند شيخ آخر بالتأكيد- عله يجد مبتغاه هناك!
لم يكن الشيخ الشافعي في هذا الموقف أستاذاً ومعلماً فقط؛ بل لعب دور الطبيب المعالج الذي شخَّص حالة مريده، وعرف مشكلته ووصف له العلاج الناجع، بعدما تجرد تماماً من التعصب لمذهبه وطريقته، ليقف أمام حقيقة مفادها أن عقلية هذا الشاب وشخصيته، وطريقة تناوله للأمور لا يناسبها مذهب دقيق جداً كالمذهب الشافعي، وأنه يحتاج إلى اجتهادات من نوع آخر يبرع فيها الأحناف.
تذكرت هذه الحادثة وأنا أستمع إلى أحد المفكرين المعاصرين اليوم وهو يتكلم عما يسميه علماء الأديان أنماط التدين، وكيف أن الإنسان يميل إلى لون معين من التدين بحكم طبيعته، أو بحكم المرحلة التي يمر بها.
فالمفكرون والفلاسفة يُشبعون غريزة التدين لديهم ورغبتهم في التزود منه عن طريق الدفاع النظري عنه، وإثبات حقائقه بالعقل والحجة، وبنفي الشبهات الفكرية التي تدور حوله بالمنطق والبرهان، وهذا ما يسمى التدين الفكري أو المعرفي، في حين يميل الزهاد والعباد مثلاً إلى العناية بخلاص الفرد، وإلى التركيز كثيراً على الجانب التعبدي والسلوكي للدين، وتجد بعض المتدينين ينطلقون لتبليغ رسالة الدين والتبشير به ونشره بين الناس، وينصبّ حرص هذه الفئة على كسب أكبر الأعداد إلى صف ما تعتقد وتؤمن به.
لذا، فقد جعل الله للجنة ثمانية أبواب، وجعل لكل باب منها صنفاً من عباده الأبرار، فقد صحَّ عند البخاري وغيره أنه يُنادى على أهل الصوم يوم القيامة ليدخلوا الجنة من باب الريان، وعلى أهل الصلاة والمكثرين منها ليدخلوا من باب الصلاة وهكذا.. وورد في ذكر فضائل بعض الأعمال العظيمة، أن صاحبها يدخل من أي أبواب الجنة يشاء، وكأنه بفعله هذا أحاط بجل رسالة الإسلام وشمل جميع جوانبها.
يقودنا هذا الحديث حتماً إلى التفريق بين الدين والتدين، فالدين مبدأ معصوم؛ لأن مصدره هو الله الكامل بعلمه وحكمته. أما التدين، فهو ممارسة الأفراد والجماعات لدين الله ولرسالته في الأرض، وهذه الممارسة ممارسة بشرية لا عصمة لها ولا قداسة، إنما تصيب من الحق والخير بقدر اقترابها من المبدأ الكامل الذي هو دين الله، ويعتريها في المقابل من الخطأ والنقص بقدر ابتعادها عنه أو عدم إحاطتها بكماله.
لذا، فعلى كل التيارات والأطياف الأيديولوجية –والدينية منها على وجه التحديد– أن تدرك وهي تخاطب جماهيرها أنها إنما تعرض عليهم جهداً بشرياً في فهم المبادئ المطلقة والعليا، وأن ما تقدمه لهم ليس فقط اجتهاداً يعتريه النقص والخلل، وإنما هو أيضاً ممارسة للدين أو لمبدأ سامٍ وعظيم. لكن هذه الممارسة قد لا تناسب كل أطياف البشر على حد سواء، لا من ناحية التركيبة النفسية لهم، ولا كظروف يعيشونها كأفراد أو كجماعات وشعوب، فالشخص حديث التوبة على سبيل المثال، والذي كان غارقاً في الفواحش بالأمس، يناسبه الزهد والتصوف النقي أكثر من أي ممارسة أخرى من ممارسات التدين، ولو في مرحلته الأولى على أقل تقدير. ومن يدفع محتلاً عن أرضه ليست الأولوية لديه بالتأكيد تبليغ الدين في الأرض، ولا بالانشغال بخلاص الفرد من عذاب الله وسخطه.
ويقودنا الحديث عن أنماط التدين كذلك إلى الحَوم حول قضية التخصصية، وإلى جدلية التقاطع والتعارض بين التيارات الدينية، وهل الاختلاف بينها دائماً هو اختلاف تعارض وتضارب في الرؤى والأدوات، أم أنه اختلاف تنوع وتكامل؟
ولنأخذ جماعة التبليغ والدعوة التي أسسها الشيخ الكاندهلوي في الهند مثالاً، فهي تعتبر أنموذجاً رائعاً على التخصصية، واختيار خط داخل الدين للعمل فيه والتفرغ له، وقد برعت فيه بالفعل. لكن المغالطة عند أفراد مثل هذه الجماعات، تقع إذا ظن أحدهم أن ما هو عليه من منهج هو الدين، وأن على الجميع أن يتبعوا تخصصه واختياره، فيصبح تماماً بسذاجةِ من يطالب كل مجتمعه -بل كل الدنيا من حوله- أن يتوجهوا إلى دراسة الهندسة أو المحاسبة في الجامعات والكليات فقط دون غيرها من التخصصات.
لذا، فما أحوجنا اليوم في الحقيقة إلى كثير من أمثال شيخ صديقي الشافعي ذاك، ممن يوجه أتباعه إلى ما فيه مصلحتهم ومصلحة مجتمعاتهم ودينهم، ولو كانت تلك المصلحة تكمن في ترك ما هو عليه وما ارتضاه واختاره لنفسه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.