عِندما مرضت في غُربتي

فكرّت كثيراً كيف سيكون وقع ما حدث على مسامع أسرتي التي لا يربط بيني وبينهم سوى مُكالمة عابرة يتمرد عليها الإنترنت القميء لتنقطع عشر مرات بالدقيقة، كيف أحمّلهم بآلام الغُربة التي اضطررت إليها قبل آلامي؟ كيف سأقول إنني أريد أن أحيا وأن أمرض حتى في جوارهم؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/29 الساعة 02:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/29 الساعة 02:12 بتوقيت غرينتش

كانت الساعة قد جاوزت الثالثة بعد منتصف الليل، عندما تحسس رفيقي صوت أناتي "المُختنقة" بعدما حاولت أن أقف على قدمي التي لم تعد تحمل جسدي الذي تمرد عليه المرض، نظر إليَّ نظرة استغراب وتعجب وربما شفقة لم أعهدها عليه، وأمسك بيدي -التي بدأت تتسلل إليها البرودة- لم يسمع تمتمات ثغري ولا تلك الكلمات التي كُنت أهذي بها والتي فَسّر مِنها بالكاد طلبي اللجوء لأي مستشفى قريب.

حالة مرضية لم يعهدها جسدي الذي أصبح غارقاً في "العَرَق" على الرغم من برودة الطقس، حالة من الشجار الحار في أحشائي، هلاوس مُضطربة تكاد تفتك برأسي بعدما سيطر عليه "الدوار"… دقائق قليلة -هكذا قال لي رفيقي- حتى جاءت سيارة الإسعاف مرّت عليَّ سنوات… نُقلت بعد وصلة من الاستفسارات والأسئلة استمرت لنصف ساعة تخللتها فحوصات سريعة، احتضنت السرير "التروللي" واستلقيت أنا وهو داخل سيارة الإسعاف المُجهزّة، وكنت أسمع توجيهات وربما استفسارات تأتي لتلك "المُسعفة" عبر جهاز لا سلكي، لم أكن آبهاً لمعرفة مصدرها، بقدر ما كُنت أريد الوصول بشكل أسرع لأنتهي من هذه الثورة التي بدأت في الانتشار بجسدي السابح في عَرَقه.

لم تُغنِ عني نظرات تلك الممُرضة لي وأنا ملقى على سرير تُحيطني أجهزة حديثة من كُل اتجاه التي كان فيها من الإحساس بضميرها العملي أكثر ما يكون من إحساسها بما يدور داخلي، ولا ضحكات هذا الطبيب الذي كان مهتماً بي قاصداً قول بعض الكلمات "المصرية" بشكل مُضحك للتخفيف عني -كونه من جنسية غير عربية- لم تُغنِ عني حتى الأدوية التي استطاعت أن توقف آلامي، لم تُغنِ عني كلمات رفيقي لي وهو يقول "ألف سلامة يا باشا… هطلع أشرب سيجارة برة"، لم يُغنِ عني هذا كله عن نظرة من أمي وأنا مريض، ففيها نصف الشفاء وربما كُله، لم يُغنِ عني هذا كُله عن اهتمام أبي ولمسة من يده الحانية… لم يُغنِ عني كُل هذا عن وجودي بين أسرتي في وطني حتى ولو كُنت مريضاً.

فكرّت كثيراً كيف سيكون وقع ما حدث على مسامع أسرتي التي لا يربط بيني وبينهم سوى مُكالمة عابرة يتمرد عليها الإنترنت القميء لتنقطع عشر مرات بالدقيقة، كيف أحمّلهم بآلام الغُربة التي اضطررت إليها قبل آلامي؟ كيف سأقول إنني أريد أن أحيا وأن أمرض حتى في جوارهم؟

مررت بتجارب كثيرة لكن أكثرها إيلاماً وإيذاء على نفسي هو عندما مرضت في الغُربة، عندما أشحت بعيني في المرآة صُدفة وأنا أمشط شعري لأرى وجهي شاحباً وجسمي هزيلاً، أرى نفسي أمضي صفوة شبابي باحثاً عن لقمة عيش في أقبية المؤسسات "بدولة أجنبية" لأعيش على الكفاف لا أكثر، بينما يجلس اثنان يعرفانني وأعرفهما جيداً هُناك بالقهوة البلدي الذي يقع على ناصية شارع سُمي باسم "شارع الغريب" يتجاذبان "مَبسم" الشيشة التي تنطفئ جمراتها لتعطيهما فرصة لقذفي كـ"مغترب" وكل المغتربين باتهامات هوجاء ليس لها أساس من الصحة دون ثبوت ما يقولونه، لا يعلمون أننا نُعاني مُرّ الغُربّة وندفع ضريبة الاغتراب كُل يوم.

وفيما يحسد المغترب أولئك الذين لم يتغربوا عن أوطانهم وأهليهم ويعتبرهم ممن يعيشون في نعمة كبيرة بين أهلهم فهم لا يعانون قسوة البعد عن أحبائهم، ووطنهم. هذه النعمة لا يقدرها إلا من اغترب وذاق ألم الفراق واكتوى بناره، أو مَرِض في غربته.

في النهايةِ أقول إنه عندما تحاول أن تأكلنا الغُربة التي لا تشبع أن نطحنها بالصبر والعمل والأمل، نعجنها بدم القلب وماء العيون ونخبزها على نار الغُربة والجَلَد لنصنع غذاءً عبقرياً فوق مائدة الوطن، يأكل منه كل جياع العالم والمحرومون من زاد الحُرية وسلام الفكر والروح.

فالغربة طويلة طويلة بطول ليلك أيها الحاسد، وأدعو الله العزيز الجبّار أن يحفظنا في غربتنا وإذ أختم ببُشرةِ سيد الأنام "طوبى للغرباء" فلأجل طوبى اغتربنا.

علامات:
تحميل المزيد