تبدَّلت في زماننا اليوم الكثير من القيم والطبائع، التي كانت فيما مضى هي الأصل الذي تقوم عليه علاقات الناس، وترتكز عليه معاملاتهم، وتتصدَّر صداقاتهم وأُخوتهم وسائر روابطهم الإنسانية، كالصدق والإخلاص والوفاء، قبل أن تضمحلَّ أو تضعُف، ويحلَّ مكانها صفات هجينة وسيئة كالخيانة والغدر والكذب؛ أسهمت في نشوء النزاعات وتوسُّع الصراعات وضياع أو ضعف علاقات نبيلة في مستوى الأخوة والصداقة والزمالة.
ولذلك، ولأن الهوَّة اتسعت بيننا وبين تلك الطباع والمعاني السامية، وأصبحت أقرب للاستثناء بعدما كانت هي الأصل؛ لا عجب أن صرنا اليوم نبحث عن قيم معينة مثل الوفاء عند الحيوانات في ظل غيابها أو تلاشيها في عالم الإنسان، فتأسرنا حوادث كثيرة يبذل فيها الحيوان الغالي والنفيس من أجل المحافظة على علاقاته، والوفاء لأصحابه وذوي الفضل عليه والدفاع عنهم، ويضرب في ذلك أروع الأمثلة الآسرة التي يجري تناقلها على وجه الإعجاب، وربما الانبهار المصحوب بنبرات التحسُّر على اندثارها وتزعزها في عالم الإنسان، العالم الذي كان يُفترض أن تكون هي أساسات بنائه وحضارته. ولعلَّ ذلك يفسِّر -على سبيل المثال- سرَّ الاهتمام غير المعهود بمقطع مرئي (فيديو) انتشر على نطاق واسع في بداية الشهر الحالي، وتصدَّر شبكات التواصل الاجتماعي، بل تجاوز عدد مشاهداته في بضعة أيام حاجز الـ(18) مليون مشاهدة، وتم التفاعل معه وأعيد نشره أكثر من (400) ألف مرة.
التسجيل المؤثر الذي أعنيه وثَّق وداعَ كلب لصاحبه، السيد ريان جيسين، من ولاية كاليفورنيا، الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى بعد إصابته بنزيف في الدماغ، قرَّر الأطباء أنه لن يتعافى منه، فبقي مسجّى في غيبوبته.
في تلك الأثناء تجمعت عائلة السيد جيسين، ومعهم أحباؤه قبل أن يُسمح لكلبه المسمى "مولي" بالدخول معهم إلى غرفته بالمستشفى، وسرعان ما قفز "مولي" إلى سرير صاحبه يناديه ويحاول إفاقته، فلمَّا لم يستجب أخذ يتلمَّس وجهه وجسده ويشتم رائحته، في لحظاتٍ مؤثرة تم توثيقها عن طريق شقيقة الشاب المتوفى ميشيل جيسين، وضجَّت بها مختلف شبكات التواصل الاجتماعي، وحققت في بضعة أيام مستويات عالية في الـ(الترند) على منصات العالم الافتراضي.
إن ما قام به الكلب "مولي" تجاه صاحبه هو من وفاء الكلاب لأصحابها، ردّاً للجميل، وعرفاناً بالفضل الذي بات في حياة الناس سلعةً نادرةً وثمينةً يصعب على البعض حملها في خضم تراكُم المصالح والمنازعات، وأفول عواطف وخصال جعلت من حياتنا آلاتٍ صماء، وعلاقاتنا أدوات جامدة خالية من الروح، بلا مشاعر ولا أحاسيس، بشكل جعل مشاهد -قد تكون بسيطة- في عالم الحيوان تؤثر فينا على هذا النحو، وننظر إليها بكل إعجاب، ونضرب بها الأمثال، متمنِّين أن تسود قيمٌ مثلها في عالم الإنسان الذي طغت فيه الماديات، وانتشر فيه النفاق والخداع، وتصدَّرت الأنانية وحبُّ الذات والتطلُّع للاستحواذ على حقوق الآخرين، على مناحٍ متنوعة وكبيرة في حياتنا، بحيث إنها أفقدتها أصالتها وعفويتها.
في سابق الأيام الجميلة، في مجتمعاتنا البسيطة، رغم الفقر وشدّة العوز كانت الروابط بين الناس مثالية، وعلاقاتهم مفعمة بالصفاء والنقاء لا ينافسها في ذلك سوى بياض الأوراق، وذلك قبل أن تجري في الأنهار مياه آسنة دفعتنا للترحم على تلك الأيام، ونبحث عن مثل قيمها في عالم الحيوانات. نعجب بها ونتفاعل معها باعتبارها من غرائب الأشياء!!
سانحة:
ورأى عمرُ بن الخطاب أعرابياً يسوق كلباً، فقال ما هذا الذي معك، فقال يا أمير المؤمنين نعم الصاحب، إن أعطيته شكر، وإن منعتُه صبر، قال عمر نِعم الصاحبُ فاستمسك به.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.