أنا أسعد، سأخبرك عن نفسي، أنا شاب تجاوزت الثلاثين بقليل، لم أتزوج بعد، وإن كنت قد أحببت كثيراً، ولكن هذه نقرة وتلك نقرة أخرى سأحدثك عنها لاحقاً.
ماذا تريد أن أخبرك الآن؟!
أستطيع أن أفعل ذلك، ولكني لا أريد، ربما أستطيع أن أضفي بعض الغموض لقصتي.. استمع لقصتي وأجبني عن سؤالي.
عرف عني التهور والحماس، ربما لذلك رفضت الانتظار 9 أشهر لتتم ولادتي، فقد اكتفيت بـ 7، كان والدي تاجراً وربما ورثت خصلة الفصال منه، فاتفقت وأمي على أن أفاجئها بالألم مسبقاً لتركض وأبي إلى المستشفى، وتتم ولادتي بعد 7 أشهر لا تسعة.
نسيت أن أخبركم بأني كنت الطفل الأوسط، أي أن شيئاً لا يميزني، فلست الكبير المسؤول، كما أنني لست الصغير المدلل، فقد كنت العضو الخفي في العائلة.
طفولتي عادية كأي طفل عربي غنَّى أمام هواء المروحة، ضرب بسلاح أمه الذري الطائر الكائن بشبشبها الأخضر، ولعبة الأتاري التي لم أكن أجيدها، ومحاولة الهروب من المنزل لأعيش مع صديق لم أعد أذكره، واكتشاف هروبي وعقابي بسماع رنات حزام الوالد على جسدي النحيل.
كل ذلك صنع مني مراهقاً خجولاً، أكتب لأصدقائي رسائل حب من فتيات صنعهن خيالي وأستمتع برؤيتهم وقد فقدن الرغبة في مضايقتي، وسماعهم لعمرو دياب ومعاقبة المدير لهم عندما وجد تلك الرسائل، لن أخبرك عما حدث لي عندما اكتشف أحده أن خط الرسائل واحد ويشبه خطي.. حسنا سأخبرك فقط بأني ابتلعتها جميعاً بيد واحدة؛ لأن الثانية مكسورة.
أحببت جارتنا سارة كانت تشبه أخاها جودة، وإن كان جودة يبدو أجمل قليلاً، كان لديهما نفس الشارب ونفس الصوت.. ثم أحببتها.. لم يكن لديَّ حل آخر هي أو سعاد التي كانت تسرق وجبات الأطفال في المدرسة.
في ذلك الوقت كانت سارة تنافس فينوس في خيالي المراهق، ولكني لم أفكر يوماً في مصارحتها، كنت أكتفي بصوتها: ماذا تريد أيها الغبي؟ وأهرب لخيالي وعالمي.
انتهت قصة حبي لها عندما اعترفت لها بحبي؛ لأكتشف أنني كل ذلك الوقت كنت أخاطب جودة.
كانت تلك المرة الثانية التي سمعت فيها موسيقى حزام الوالد، ولكن جسدي لم يعد نحيلاً، قاربت مراهقتي على الانتهاء وأنا أتساءل: متى ستأتي أيام حياتي الأفضل؟ متى سأصرخ باسمي كصفة لي؟
أخبرني والدي بأن الثانوية العامة هي عنق الزجاجة، وبأنَّ عليَّ أن أتعب وقتها لأرتاح فيما بعد، كنت ساذجاً.. وصدقته.
دخلت كلية الهندسة وطيلة سنين دراستي يخبرونني بأنها الأفضل، وأنا لا أرى إلا مشاريع وإرهاقاً وعدم نوم ومشكلات ونهى.. مَن نهى؟ أخت صديقي.. تختلف عن سارة كثيراً، لا تشبه أخاها.. لم أرَها ولكني تحدثت إليها طويلاً وجدت بريدي الإلكتروني في حساب أخيها وبعثت لي بدعاء ديني، أعجبني تدينها فأضفتها، وكنا نتحدث طويلاً، رسمنا حياتنا معاً… أطفالنا.. كل شيء.
عملت وأنا أدرس كي أستطيع تغطية تكاليف دراستي فتعليمنا أرهق والدي الذي لم يدخر قرشاً مقابل تعليمنا.. وما زلت أغضب عند رؤيته لخداعه إياي بقصة الراحة المنتظرة.
تخرجت أخيراً وفرحاً هرعت أخبر نهى بأني سأتقدم لخطبتها لأفاجئ بأنها أخي علي.. لم أستطع ضربه؛ لأن أبي عرف بالموضوع وانهار ضحكاً وأخبرني أنني إن تعرضت له ستكون مرَّتي الثالثة مع الحزام.
تخرجت معتقداً أن الأفضل قادم، ولكني لم أجد سوى بطالة وقهر.
انحسر شعر رأسي وما تبقى منه اصطبغ بالأبيض، أنتظر أسعد أيام حياتي وأنا شاب وأرى استحالة قدومها.
أرى زهرة تلك الفتاة الرقيقة التي كانت معي في دورة إدارة المشاريع وكيف فتك المرض الخبيث بجسدها، وأرى ماجد صديقي وهو يبكي؛ لأن طفله يحتاج مصلاً ما لم يجده في البلاد، وأرى جارنا كيف توفي والده ولم يملك ثمن دفنه، وأرى عادل صديقي الطبيب وهو يقترب من الجنون ما بين دوام المستشفى العام والخاص ومتابعة دراسته وتخصصه وأطفاله الذين لا يعرفونه، وسارة وكيف أصبحت هي الأم والأب والعائل بعد قصف منزلهم واستشهاد أخيها ووالديها ومسؤولية أربعة إخوة صغار.
وأنا.. لا عمل ثابت، لا دخل ثابت، فمتى بالله عليك تأتي أسعد أيام حياتنا إن لم تكن ونحن شباب؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.