أذكى الأذكياء

والغريب أن الكبار كانوا يلاقون الويلات معها. فحين يوجهونها يميناً كانت تذهب يساراً، وهكذا؛ العكس بالعكس! بعد عدة مواقف من هذا النوع اكتشفتُ أنّ أذكى الأذكياء هم الأطفال لأنهم يتفاهمون ببساطة مع الحمير على خلاف الكبار

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/06 الساعة 02:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/06 الساعة 02:59 بتوقيت غرينتش

لا أذكر منذ متى وأنا أُرهقُ نفسي في وضع حلولٍ لمشاكل البشريّة! في البدءِ كانت مهمّتي سهلة حيثُ كنتُ طفلاً وفي يدي كل الخيوط التي -للأسف- كلّما تقدمتُ في السن تقطّعت، ولم يبق معي منها اليوم سوى خيط صغير أنظّف به أسناني وأنا شارد الذهن أفكر كيف تسرّبت منّي كل الحلول؟
بينما كنت أقوم بثقب طبات الكازوز لأصنع منها عجلات لعلب السردين وأجعل منها سيارات سباق، كان أبي يجلس على كرسي قربي يلاحق نشرات الأخبار من إذاعة لندن إلى مونت كارلو إلى دمشق.. إلى آخره. كنت في السابعة من العمر وكان صوت ألعابي يزعج أبي ويجعله يتشاغل عن خبر هام يناقش مشكلة الشرق الأوسط، فزجرني ومنعني من لمس أدواتي السحريّة حتى نهاية الأخبار. أذكر أني جلست أفكّر.. أيّ عاقل يضيّع وقته على هذه الأخبار ويترك علب السردين وبقايا أعواد البوظة والأسلاك؟! لكنني أُرغمتُ على ذلك، فهكذا أمَرَ الوالدُ، وأمْرُ الوالدِ لا يُردّ. لذا جلست أستمع مثله، وبعد أقل من دقيقة فهمتُ كلّ شيء. هناك أرض محتلّة وأهلها يريدون الرجوع إليها. إذاً أين المشكلة؟ ليذهب الذي احتل أرضهم وليعودوا هم إلى بيوتهم كما كانوا وتنتهي المسألة. وقلت في سرّي: غريب غباء الكبار! ورحت أفكر بما هو أهم. كيف سأدخل أسلاكي الذهبية وسط الثقوب أسفل كل طبّة لأصنع عجلات لسياراتي الرائعات؟
في حرب 1973 صادف أن سقط صاروخ إسرائيلي على البيوت المجاورة لبيتنا وتأثّر بيتنا قليلاً وفتحتْ لنا إحدى الشظايا نافذة صغيرة في المطبخ لم يعترض عليها أحد حتّى أمّي! وبقيتْ هكذا على طول السنين تصرّف رائحة القلي والسلق والطبخ كأحسن ما يكون. خرائب البيوت المجاورة أصبحت مكاناً رائعاً للاختباء وممارسة الألعاب الخطيرة والشيطنات، وكم كنا نقضي أوقاتاً رائعة هناك! حتى إنه في إحدى المرات حضر صحفي أجنبي ليصورنا كأطفال شردتهم الحرب ونحن نلعب فوق الأطلال فأخذناه على قدّ عقله وفعلنا ما يريد. ولا أعلم بماذا كان يوحي مظهري في تلك الأيام! لكنه اختارني من بين الجميع ووضعني فوق كومة خراب وأخذ يفقّس بكاميرته وأنا أبتسم بسعادة ما بعدها سعادة إلى أن فهمتُ بعد عدّة إشارات منه أن آخر ما يريده هو الابتسام .كانت أياماً حلوة وكنت أسمع في المذياع الأغاني والأهازيج والخطب الرنّانة، ونشرات الأخبار تقول: انتصرنا. وكنت أوافق على الفور وها هو الدليل. ها قد أصبح عندنا أماكن رائعة للعب، و زارنا الصحفيون الأجانب، كذلك صار عندنا نافذة في المطبخ دون أن ندفع أي قرش.

كنّا نزور القرية كل صيف فور إغلاق المدارس أبوابها. ومن محاسن القرية بالنسبة لي كان الركوب على الجحشة. كنت صغيراً وكان والدي يرسلني من الأرض حيث يعمل الأهل إلى البيت في القرية لأجلب لهم بعض الأغراض، وفي الطريق لم أكن أبذل أيّ عناء مع الجحشة. كنت أقودها ببساطة كما كانوا يفعلون معنا في المدرسة. أقول: يمينْ دُرْ، فتذهب يميناً. يسار دُرْ، فتذهب يساراً. هيش قف. فتتوقف على الفور. هكذا كنّا نتسلى أنا وهي طيلة الطريق، وهكذا نشأت بيننا صداقة عظيمة. والغريب أن الكبار كانوا يلاقون الويلات معها. فحين يوجهونها يميناً كانت تذهب يساراً، وهكذا؛ العكس بالعكس! بعد عدة مواقف من هذا النوع اكتشفتُ أنّ أذكى الأذكياء هم الأطفال لأنهم يتفاهمون ببساطة مع الحمير على خلاف الكبار!

أيضاً في القرية، ولكن في قرية أخرى غير قريتنا. كنت مع أخي، وفي الطريق صادفنا بعض الأبقار ترعى. قلت: هذه الأبقار لبيت فلان. وهم أبناء عمومة من كنّا بصدد زيارتهم. نظر أخي إليّ باستغراب وسألني: وما أدراك؟ قلت: انظر إنها تشبههم. لم أفهم حينها لماذا ضحك! لكن ماذا أفعل، هكذا هم الكبار. وبمجرد وصولنا، سأل أخي: لمن هذه الأبقار. فأجابه مضيفنا: إنها لبيت فلان (نفس العائلة التي توقّعتها) وهذه المرة أنا من ضحك محدّثاً نفسي: يا للكبار كيف تفوتهم البديهيات!
*طبّات: مفردها طبّة وهي غطاء الزجاجة. أمّا الكازوز: فهو نوع من المشروبات الغازية كان منتشراً في سبعينيات القرن الماضي حتى بات يطلق اسم "كازوز" على أي مشروب غازي جديد مضافاً إليه اسم الماركة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد