صبيّان صغيران يعيشان في قرية بسيطة تعتبر نائية في تلك الأيام.. حصل هذا في خمسينيات القرن الماضي. أحدهما -وهو الصبي البكر لعائلته- يذهب إلى المدرسة الموجودة في قرية مجاورة في الوقت الذي كان رفيقه ممنوعاً من التعلّم من قبل والده لأجل رعي الأبقار والعمل في الأرض.
كان راعينا الصغير ينظر بحسرة إلى رفيقه عندما يذهب ويعود كلّ يوم حاملاً الكتب والدفاتر والأقلام، في الوقت الذي يبقى هو برفقة أبقاره طيلة النهار. لا أحد يعلم بماذا كان يفكّر ولا بماذا كان ينشغل في هذه الأثناء، لكنّ مشكلة خلقية كانت تمنعه من فتح أصابع يديه بشكل كاملٍ، لا بدّ أنها أخذتْ حيّزاً كبيراً من تفكيره وهو يقطع الدروب وحيداً برفقة قطيعه الصغير.
كان يحفظ توقيت عودة رفيقه من المدرسة؛ لذا تجده يسوق قطيعه أمامه كلّ يوم إلى مكان محدّد حيث يلتقي الرفيقان ويبدآن اللعب كأيّ طفلين، تاركين الأبقار تعيث فساداً في الجوار.
ما كان يجيده الراعي الصغير هو "الصفير" بوساطة أصابعه المتشنجة دوماً أو دونها، ويُحكى أنّه كان فنّاناً في ذلك ولا يوجد طريقة للصفير لا يعرفها، حتّى أنّ أحد رفاقه صار يشيع عنه مازحاً بعد أن كبروا
وأصبحوا شبّاناً أنّهُ يستطيع الصفير حتّى باستخدام عضوه لو اقتضى الأمر! الأمر الذي كان يجعله يطلق ضحكة غريبة متباهياً بهذه الميزة الاستثنائية التي لا تتوفر عند الغير.
موهبته تلك كانت من أكثر الأشياء التي تثير إعجاب رفيقه "التلميذ" الذي لم يتقن هذا الفن يوماً ولا بأي قدر؛ لذا حصل اتفاق طفولي بينهما يقضي بأن يتبادلا المعارف، وأن يعلّم كلّ منهما الآخر ما يُجيد. عند البدء بتعلّم الكتابة برزت عند الراعي الصغير مشكلة الأصابع غير المؤهلّة ـنسبيًّاـ لمسك القلم بسبب ما فيها من عطب. وبتفكير طفولي قد يبدو مضحكاً بقدر ما هو مثير للشّفقة والحزن، تمّ الاتفاق بينهما على تقويم الأصابع وتأهيلها للكتابة والتعلّم!
كانت الطريقة المقترحة أن يضع الراعي الصغير كفّه على الأرض محاولاً فتح أصابعه إلى أقصى حد ممكن بينما يقوم الآخر بـ"الدعس" عليها بقدمه والضغط بقوة محاولاً تقويمها، وهو يجرّب بذات الوقت إخراج صفير من بين شفتيه متّبعاً تعليمات رفيقه الذي أثبتَ قدرةً عظيمة على تحمّل الألم إلّا أنّه كما يُقال: لكل شيء حدود. لذا كنت تسمع بعد فترة قصيرة من "العلاج" صوت صراخٍ يملأ الوادي يصاحبه فحيحٌ غريب هو نتاج محاولات الآخر في تعلّم الصفير!
في ذلك الوادي البعيد قرب نبع الماء المحفور في كهف قليل العمق وبين أشجار المشمش والخوخ والتوت وعلى أطراف الساقية المليئة بالقصب والدفلى وأحراش الديس، تعلّم صديقنا الراعي الصغير كتابة الأرقام وقراءة بعض الكلمات يوماً بيوم، ولم تعقه أصابعه -التي فشلت معها كل أشكال العلاج الطفولية- في مسك القلم ورسم حروفه الأبجدية الأولى، ولا أعلم ما هي الكلمات التي خطّها عندما تمكّن من الكتابة، لكنني أستمتعُ اليومَ وأنا أتخيله منبطحاً على الأرض تحت إحدى الأشجار وهو يكتب بحماسة فوق صفحات الدفتر المدرسي المعفّر بالتراب: "ما أجمل الأبقار وهي تطير"!
كذلك لا أعلم الذي حصل بالضبط فيما بعد، وكيف عاد راعينا الصغير إلى المدرسة واستطاع باجتهاده ومثابرته تحصيل بعض العلم، ما أتاح له الفرصة فيما بعد لترتيب حياته بشكل لطيف حيث تزوّج وأنجب أولاداً بعد أن تطوّع في الجيش -بعملٍ إداريٍّ- واستقر في دمشق حتّى خروجه إلى المعاش. ليعود إلى قريته الصغيرة وقد أبيضّ شعره، لكنّ روح الشباب كانت لا تزال تعتمل في جسده القوي، فقام ببناء بيت صغير فوق قطعة أرض مطلّة على بحيرة السدّ الجميلة التي أُنشئتْ أثناء غيابه وزرعَ حول بيته ورداً وأشجاراً مثمرةً، ثم بشكلٍ مفاجئٍ مات وبقيتْ أصداء ضحكته المميزة وصفراته المدويّة يتردّد صداها في ذاكرة أصدقائه وفوق مياه تلك البحيرة التي غمرت بمياهها ملاعب طفولتهِ والمراعي التي حلّق في سمائها مع أحلامه وأبقاره كما يحلو لي أن أظن!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.