كانت مالي تعتبر من أكثر مستعمرات إفريقيا السابقة تبعية للنفوذ الفرنسي، فكيف أوصلت تصريحات إيمانويل ماكرون، لدرجة وصفه رئيس وزراء مالي بـ"طفل الانقلابيين"، الدولة الإفريقية لرفع راية التحدي بهذا الشكل؟
مالي واحدة من مستعمرات فرنسا السابقة في القارة السمراء، وهي أيضاً مقر للعدد الأكبر من القوات الفرنسية في إفريقيا، وتتمتع باريس بنفوذ هائل على باماكو، التي شهدت انقلابين عسكريين خلال عام واحد، ووصف ماكرون الانقلاب الأخير بأنه "انقلاب داخل الانقلاب".
لكن الفترة الأخيرة شهدت انقلاباً من نوع آخر مرتبط بطبيعة العلاقة بين المستعمر الأوروبي السابق ومستعمرته الإفريقية، إذ رفعت الأخيرة راية التحدي بصورة غير مسبوقة، وصلت إلى حد استدعاء السفير الفرنسي في باماكو للاحتجاج على تصريحات للرئيس الفرنسي، بل وتغيير البوصلة تماماً نحو روسيا.
متى بدأت قصة التوتر بين فرنسا ومالي؟
شهدت مالي انقلاباً عسكرياً أطاح بالرئيس الأسبق إبراهيم أبوبكر كيتا في أغسطس/آب 2020، وباركت فرنسا ذلك الانقلاب، الذي جاء بمجلس انتقالي يدير البلاد وصولاً إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية كان من المقرر أن تُجرى في العام المقبل 2022.
وكان رئيس المجلس الانتقالي باه نداو ورئيس الحكومة مختار وان على وفاق تام مع فرنسا، لكن في مايو/أيار الماضي قام العقيد أسيمي غويتا –نائب رئيس المجلس الانتقالي– باعتقال الرئيس ورئيس الحكومة واستيلاء العسكريين على السلطة، وهي الخطوة التي سارع ماكرون إلى إدانتها معتبراً إياها "انقلاباً على الانقلاب".
وخلال الأشهر القليلة الماضية، بدأت تتكشف كواليس ما يجري سواء في باماكو أو باريس أو حتى موسكو؛ إذ اتضح أن ما يجري على أرض الدولة الإفريقية هو عبارة عن صراع نفوذ محتدم بين فرنسا وروسيا.
وكشف تقرير لموقع The Conversation الأسترالي عن وجود نسختين متباينتين من وجهات النظر داخل أروقة السلطة في مالي: الأولى يُمثِّلها المسؤولون التنفيذيون الذين تم اعتقالهم والإفراج عنهم بعد استقالتهم (نداو باه ومختار وان)، ويرى الكثيرون أنّها مرتبطةٌ بمصالح فرنسا.
والثانية يُمثّلها المجلس العسكري، وهي تعارض نفوذ مستعمر مالي السابق وتُروّج إلى التقارب مع روسيا بدلاً منه. وتحمل وجهة النظر الثانية ثقلاً كبيراً بين أولئك الذين ينظرون نظرةً سلبية إلى وجود الجيش الفرنسي في مالي، والذين يحتجون بانتظام على العمليات العسكرية الفرنسية داخل البلاد.
التعاقد مع فاغنر الروسية
ومنتصف سبتمبر/أيلول الماضي، نشرت رويترز، نقلاً عن سبعة مصادر دبلوماسية وأمنية تقريراً يقول إن اتفاقاً وشيكاً سيسمح لمرتزقة فاغنر الروس بدخول مالي بشكل رسمي، وسط اتخاذ باريس مسعى دبلوماسياً لمنع المجلس العسكري في مالي من تفعيل الاتفاق الذي سيسمح لمجموعة فاغنر، وهي مجموعة من المتعاقدين العسكريين الروس من القطاع الخاص، بالعمل في مالي.
ورغم رفض فرنسا التعليق لرويترز على ما أوردته مصادرها، فإن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان واجه أسئلة بهذا الشأن من لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية الفرنسية، وقال إن "أي اتفاق بين المجلس العسكري الحاكم في مالي ومجموعة فاغنر الروسية سيكون "متنافياً" مع بقاء قوة فرنسية في البلاد.
وأضاف لودريان أن "أي تدخل لمجموعة من هذا النوع في مالي سيكون متنافياً مع عمل الشركاء الساحليين والدوليين في مالي". وقال مصدر فرنسي قريب من الملف لوكالة الأنباء الفرنسية إن "المجلس العسكري الحاكم في مالي يدرس بالفعل إمكان إبرام عقد مع مجموعة فاغنر الروسية لنشر ألف مقاتل روسي من المرتزقة في مالي لتشكيل قواتها المسلّحة".
وسرعان ما تدهورت الأمور بصورة لافتة، ومن على منبر الأمم المتحدة، شن شوغل كوكالا مايغا رئيس وزراء مالي هجوماً على فرنسا معتبراً أن باريس تخلت عن بلاده "في منتصف الطريق" لسحبها قوة برخان، ومبدياً أسفه للإعلان "الأحادي"، ومبرراً بحث بلاده عن "شركاء آخرين".
وتلا ذلك تأكيد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن مالي طلبت من شركات روسية خاصة تعزيز الأمن في الدولة الإفريقية، وهنا خرج الرئيس الفرنسي عن جميع الأعراف الدبلوماسية، ووجه تصريحات حادة ومهينة نحو الحكومة في مالي.
ماكرون يصف رئيس حكومة مالي بـ"طفل الانقلابيين"
ووصف ماكرون رئيس الحكومة المالية كوكالا مايغا بأنه "طفل الانقلابيين"، مضيفاً أن شرعية حكومته تساوي "صفر ديمقراطياً"، و"ما قاله رئيس الوزراء المالي غير مقبول. إنه لعار. وهذا يسيء إلى ما ليس حتى حكومة".
وعلى الفور استدعت وزارة الخارجية المالية السفير الفرنسي في باماكو للاحتجاج على تصريحات ماكرون، التي وصفتها بـ"المؤسفة"، وقالت الوزارة في بيان، إن وزير الخارجية "دعا السلطات الفرنسية إلى ضبط النفس وتجنب إطلاق أحكام تقييمية"، وأكد البيان رفض باماكو "التصريحات غير الودية والمهينة" التي وردت على لسان ماكرون، معبراً عن "احتجاج قوي على هذه التصريحات المؤسفة".
والان اقتربت مالي من التوقيع بالفعل على عقد مع شركة فاغنر الروسية لجلب ألف مرتزق، بل وتسلمت أربع مروحيات عسكرية من روسيا، ما أثار جنون المسؤولين الفرنسيين، الذين يعتبرون مالي أكثر الدول الإفريقية تبعية لنفوذهم.
ولم يقف تصعيد باماكو ضد باريس عند هذا الحد، بل وجَّه رئيس حكومتها تهماً خطيرة ضد القوت الفرنسية بجلب إرهابيين من ليبيا وتدريبهم في كيدال (قرب الحدود مع الجزائر).
وتحدث مايغا، في تصريحات لوكالة "ريا نوفوستي" الروسية، عن إنشاء القوات الفرنسية جيشا في كيدال، وسلمته إلى حركة تشكلت من "أنصار الدين"، وقال إنه يملك أدلة على ذلك، بحسب تقرير للأناضول.
وجماعة "أنصار الدين"، تنظيم مسلح أغلب عناصره من الطوارق، ويقودهم إياد آغ غالي، زعيم "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، التي تضم عدة جماعات مسلحة تنشط في مالي، بينها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، المصنَّف إرهابياً في عدة دول.
ولم يوضح مايغا هوية "الإرهابيين" الذين جلبتهم فرنسا من ليبيا، هل هم من المرتزقة الأفارقة من تشاد والنيجر والسودان، أم من الطوارق الذين جندهم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي (1969-2011) ثم عادوا إلى مالي لقتال الحكومة المركزية منذ 2012.
هل تسعى فرنسا لتقسيم مالي؟
إلا أن الادعاء بأن فرنسا سلمت هذا "الجيش" إلى حركة تشكلت من "أنصار الدين"، اتهام خطير جداً، ويعني أن باريس إما تحالفت مع تنظيم القاعدة، أو مع فرع منشق عنه في شمالي مالي، وفي كلتا الحالتين فإن الهدف هو زعزعة استقرار مالي والجزائر معاً، خاصة إذا دخل مرتزقة فاغنر إلى مالي، بحسب الأناضول.
فقرار باريس إنهاء عملية برخان في منطقة الساحل الإفريقي، وانسحابها من مدن شمالي مالي (كيدال وتيساليت وتومبوكتو)، يعني ضمنياً تسليمها لجماعة "النصرة" بقيادة آغ غالي. إذ إن المجموعات المسلحة للطوارق والأزواد غير قادرة على مواجهة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وخسرت المواجهة ضدها في 2012، رغم أنها تحالفت معها في بداية الهجوم على شمالي البلاد.
وعلى الأغلب فإن القوات الفرنسية، التي تسيطر فعلياً على شمالي مالي، تسعى لتدريب عناصر من الطوارق لمواجهة تنظيمي القاعدة وداعش في الصحراء الكبرى، ولكن قد يلعب هذا "الجيش" على انفصال إقليم أزواد (شمالي مالي) عن باماكو، أو أن ينهار على يد جماعة "أنصار الدين" إما بسبب الترابط العرقي والقبلي، أو بالقوة المسلحة.
فماكرون، ومنذ 2017، يسعى لسحب قوات بلاده من مالي، لكنه لا يريد أن يظهر هذا الانسحاب كهزيمة شخصية له قبيل أشهر من الرئاسيات الفرنسية. ولا يريد الرئيس الفرنسي تكرار ما حدث للولايات المتحدة الأمريكية أثناء انسحاب قواتها من أفغانستان في 2021، ومن فيتنام في 1975.
لكن الجيش الفرنسي قد يعمل على تجريب خطة "فتنمة الحرب" التي لجأت إليها واشنطن في فيتنام (وفشلت)، من خلال إنشاء "جيش عميل" لفرنسا من الطوارق، وهذا ما يقلق باماكو، التي لا يسيطر جيشها على شمالي البلاد. واعترف رئيس الوزراء المالي أنه لا يمكن لحكومته "الوصول إلى كيدال حالياً، لأنها منطقة معزولة تسيطر عليها فرنسا، ولديها مجموعات مسلحة هناك، دربها ضباط فرنسيون".
وأحد أسباب عدم سماح فرنسا للجيش المالي بالانتشار في الشمال، اتهام حركات مسلحة في المنطقة له بارتكاب تطهير عرقي ضد العرب والطوارق في 2013، أثار استياء عدة دول ومنظمات حقوقية.
وقبل أن يقرر الرئيس الفرنسي إنهاء عملية برخان في منطقة الساحل في يونيو/حزيران الماضي، وتقليص عدد قوات بلاده من 5100 عسكري إلى ما بين 2500 و3 آلاف عنصر، قرر الانسحاب تماماً من مدن تيساليت وكيدال وتومبوكتو.
واعتبرت باماكو هذا القرار تخلياً عنها، بل إن رئيس الوزراء المالي شجب في حوار مع إذاعة فرنسا الدولية، في 27 سبتمبر/أيلول، ما اعتبره "إعلاناً أحادي الجانب"، ودون التنسيق الثلاثي مع الأمم المتحدة والحكومة المالية. وقال مايغا: "تأسف مالي لأن مبدأ التشاور والتناغم، الذي يجب أن يكون القاعدة بين الشركاء المتميزين، لم يُحترم عند اتخاذ هذا القرار".
كما أن باماكو لا تنظر بعين الرضا إلى تحدّث فرنسا باسم مالي في العديد من المحافل الدولية متجاهلة السلطات الجديدة، وعدم احترام سيادة بلادها. ولم تستسغ باريس فتح باماكو قنوات اتصال مع جماعات مصنفة إرهابية مثل "أنصار الدين" وجماعة "تحرير ماسينا"، لإقناعها بالدخول في مسار مصالحة وطنية على الطريقة الجزائرية.
وتتهم وسائل إعلام فرنسية، بينها موقع "لاكروا"، الحكومة المالية باستغلال العداء التاريخي للشعب المالي ضد فرنسا، وافتعال هذه الأزمة، لصرف النظر عن إخفاقاتها، ورفع شعبيتها، خاصة بعد إعلان مايغا تأجيل محتمل للانتخابات الرئاسية والتشريعية، المقررة في 27 فبراير/شباط 2022، بضعة أسابيع أو أشهر، رغم تعهدات المجلس العسكري للمجتمع الدولي.
ثم جاءت زيارة وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، إلى باماكو، لتعطي دعماً معنوياً أكبر للحكومة المالية، التي استدعت في نفس اليوم السفير الفرنسي للاحتجاج على تصريحات ماكرون.
وأعطى ذلك انطباعاً وكأنَّ هناك تنسيقاً بين الجزائر ومالي للتنديد بتصريحات ماكرون ضد البلدين، خاصة أن الجزائر سبقت باماكو في استدعاء السفير الفرنسي لديها، ما شكل إحراجاً دبلوماسياً لباريس، ومساساً بهيبتها في مستعمراتها السابقة. وبالتالي تبدو الأمور متجهة نحو التصعيد بين فرنسا ومالي، التي تجد في الدعم الروسي والجزائري فرصة لمواجهة النفوذ الفرنسي الطاغي.