وصل بابي دياو، الذي ترجع أصوله إلى السنغال، إلى مدينة فلورنسا لدراسة الهندسة في أواخر السبعينات، ورغم أنه كان جزءاً من مجموعة قوامها 15 طالباً إفريقياً، إلا أنه أثار فضول نظرائه الإيطاليين والمجتمع حوله، ولكنه لم يعان العنصرية أبداً، حيث قال "أتذكّر المشي في الشارع، بينما يطلب مني الناس التقاط صورة".
وأضاف دياو بحسب ما نقلت صحيفة الغارديان البريطانية، الأحد 18 فبراير/شباط 2018، قائلاً "كان يُنظَر إلينا على أننا جديدون، ولكن لم نتعرّض لإهانة أبداً، وعندما ذهبنا لإجراء تصاريح إقامتنا، كان ضباط الشرطة يقدمون لنا قهوة".
وتابع قائلاً "نعم؛ قد تكون إيطاليا وراء بلدان أخرى عندما يتعلّق الأمر بالعقلية الثقافية، إلا أننا استُقبِلنا استقبالاً حسناً".
كان ذلك ما جرت عليه الأمور سابقاً؛ ولكن الآن، وقبل الانتخابات الوطنية المقرر إجراؤها، في 4 مارس/آذار 2018، أصبح الخطاب المعادي للمهاجرين مهيمناً على الحملة التي أخذت مساراً قذراً ومثيراً للانقسام، وأخذت الأمور منعطفاً ساماً هذا الشهر، عندما تسبب لوكا تريني، البالغ من العمر 28 عاماً في إصابة 6 أفارقة بجروح، في حادث إطلاق النار بدوافع عنصرية بمدينة ماشيراتا وسط البلاد، وفق الصحيفة.
الخطاب المعادي للمهاجرين
وكان تريني مرشّحاً للانتخابات المحليّة خلال العام الماضي عن حزب رابطة الشمال، وهو أحد حزبين مناهضين للمهاجرين، ويشكِّل الحزب جزءاً من تحالف يضم العديد من الفصائل بزعامة حزب فورزا إيطاليا، الذي يتزعّمه رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني.
ويشارك كلٌّ من حزب رابطة الشمال وحليفه الأصغر "إخوان إيطاليا" في برنامج "الإيطاليون أوّلاً"، الذي يستهدف 600.000 مهاجر نزلوا على الشواطئ الجنوبية الإيطالية على مدى السنوات الأربع الماضية، فارّين من الحرب والجوع والقمع.
وبالنسبة للمهاجرين الذين وصلوا البلاد منذ فترة أطول، فإن العداء المتصاعد تجاه الغرباء شهد تطوّراً مُحزِناً بعد سنوات من الاندماج التدريجي.
دياو، الذي يساعد في دمج المهاجرين الوافدين حديثاً خلال عمله لدى جمعية "إل سيناكولو" الاجتماعية التعاونية في فلورانسا، يُرجِع تغيّر الشعور تجاه المهاجرين إلى عام 2007، العام الذي ظهرت فيه الأزمة المالية، ويقول "عندما يُبلي الإيطاليون بلاءً حسناً، وعندما يكون لديهم المال والعمل، فإنهم لا يقلقون بشأن المهاجرين؛ ولكن عندما يُعانون فإنهم يرتبكون ويبحثون عن شخص يُلقون عليه باللوم".
وتجلّى عمق العداء المتنامي تجاه المهاجرين، في ديسمبر/كانون الأول 2011، عندما فتح جانلوكا كاسيري، أحد مؤيدي مجموعة "كازابوند" التابعة لتيار الفاشية الجديدة النار على سوقين مركزيين في فلورنسا، وتسبب في مقتل اثنين من الباعة الجائلين السنغاليين، وإصابة ثلاثة أشخاص قبل أن ينتحر. وأصيب أحد الناجين من الحادث بشلل ممتد من الرقبة إلى أسفل.
وقد كان المناخ السياسي في ذلك الوقت متوتراً مثلما هو عليه اليوم؛ فقد بدأت موجة الهجرة العربية التي حرّكها الربيع العربي في مطلع العام نفسه، وكانت إيطاليا مشتتة بين الحكومات، بعدما أُجبِر برلوسكوني على الاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء للمرّة الثالثة وسط أزمة ديون حادة.
ويُرجِع آخرون التحوّل إلى وقت أسبق؛ يوهان أفريكوت، المولودة في روما لأم هايتيية وأب غاني أميركي، تعرّضت لحادث عنصري لأول مرّة في عام 1994 عندما كانت في الـ11 من عمرها. وكان ذلك هو العام الذي تقلّد فيه بيرلسكوني السلطة للمرّة الأولى، ضمن تحالف مكوّن من حزب رابطة الشمال، وحزب التحالف الوطني الذي نشأ من حزب الحركة الاجتماعية الإيطالية بعد الفاشية، وقد أصبح حزب التحالف الوطني لاحقاً حزب إخوان إيطاليا.
وتقول يوهان "في المدرسة، كنت الشخص الوحيد الأسود في الصف، ولكنّي لم أتعرّض لأي عنصرية من زملاء الدراسة"، وأضافت "إلا أنني أتذكر الرابطة، عندما سأل صحفيٌّ أحد أشخاصها عن سبب تواجدهم، وقالوا إنهم يريدون الحفاظ على هويّتهم الإيطالية، وكانت هذه هي اللحظة التي جعلتني أفكر أن الأمور كانت بالنسبة لي مُختلفة قليلاً".
يوهان أفريكوت، هي مؤسسة مجلّة غريوت، التي تصدر على الإنترنت باللغة الإيطالية، وتحتفي بالثقافة الإفريقية والتنوع الخلّاق، وقالت إن هجوم ماشيراتا جعلها تشعر بالخوف، ليس فقط حيال المهاجرين، ولكن حيال المجتمع الإيطالي ككل.
وأضافت قائلة "هذه الحملة ساعدت على تقدم الأحزاب اليمينية المتطرفة، وأقرّت وضعاً سيكون من الصعب جداً حله". وتابعت: "أنا خائفة من الانتقام من المهاجرين الجدد، وأولئك الذين ولدوا هنا أو عاشوا هنا لسنوات".
القضاء على "العرق الأبيض"
وتساعد وسائل التواصل الاجتماعي على زيادة سُمية الحملة، ففي يناير/كانون الثاني 2018، زعم أتيليو فونتانا، وهو مرشح لتولّي منصب محافظ لومبارديا عن حزب رابطة الشمال، أن تدفّق المهاجرين يهدد بالقضاء على ما وصفه بـ"عِرقنا الأبيض".
وفي الأسبوع الماضي نُشِرت صورة لراكب ذي بشرة سوداء، على متن قطار من روما إلى ميلانو، عبر موقع فيسبوك، مع رسالة مصاحبة تدّعي أنه استقلّ القطار دون تذكرة. واتُّهِم الرجل بعدم القدرة على التحدث باللغة الإيطالية، و"عدم حيازة المال ولا الأمتعة"، على الرغم من أن الكاتب أشار إلى أنه "يملك هاتفاً من طراز سامسونغ S8" على حد وصفه، وقد انتشرت تلك الرسالة بسرعة قبل أن يأتي مسؤول حجز التذاكر للتأكد من أن الرجل يحمل تذكرة صالحة.
ويعتبر كل من دياو وأفريكوت ضمن 5 ملايين شخص من أصل أجنبي، لديهم إما الجنسية الإيطالية أو تصريح بالإقامة في البلاد.
وتقول سيسيل كينجي، وهي عضوة بالبرلمان الأوروبي وقد انتقلت إلى إيطاليا من جمهورية الكونغو الديمقراطية في عام 1983 لدراسة الطب "الكثيرون منهم يعملون ويدفعون الضرائب ويسهمون في المجتمع؛ ولكننا لا نتحدث أبداً عن هؤلاء"، وأضافت قائلة: "بدلاً من ذلك، تحدث ضجة كبيرة عندما ينتقل 12 مهاجراً إلى إحدى المدن".
ويشار إلى أن سيسيل قد تلقَّت وابلاً من الإساءات، وشُبِّهت بإنسان الغابة خلال فترة تولّيها منصب وزيرة الاندماج بحكومة إنريكو ليتا عام 2013.
وكانت سيسيل تؤكد دوماً على أن إيطاليا بلد متسامح، وأن الهجمات جاءت من مجموعة صغيرة من الجُهلاء. ولكن البلاد الآن متعددة الثقافات، وبحسب ما تقول، يجب أن تقوم بجهد أكبر بكثير فيما يتعلّق بالاندماج. وقد تم إلغاء دورها عندما أصبح ماتيو رينزي، زعيم الحزب الديمقراطي يسار الوسط، رئيساً للوزراء في عام 2014.
ويُلقي دياو باللوم على الحكومة، لاسيّما الأحزاب اليسارية الضعيفة، بسبب الانقسامات العرقية فيها. ويقول "هذه فترة قبيحة جداً، لأن الأحزاب اليسارية كانت قوية جداً، لا سيما في مكافحة العنصرية والتمييز أيضاً؛ هم اليوم ضعفاء".
ومع ذلك، يشعر دياو بالدعم من نحو 30.000 شخص خرجوا إلى الشوارع في مدينة ماشيراتا، الأسبوع الماضي، للتظاهر ضد الفاشية.
ويقول: "لقد كان ذلك جميلاً.. خاصة أنني رأيت الكثير من الشباب الإيطاليين هناك، ولا يسعنا سوى أن نأمل أن تسير هذه الانتخابات في اتجاه مختلف عن ذلك الذي نخشاه".