تشرق الشمس عليه فيبدو كنقطة سوداء صغيرة على صفحة بيضاء بمجرد ابتعاده عن سواحل مدينة زوارة الليبية بأقصى الغرب، في رحلته التي بدأت مع منتصف الليل.
هكذا بدا مركب الصيد الصغير الذي تحمله مياه المتوسط نحو إيطاليا، ويحمل هو عشرات الأحلام المكدسة التي تكاد تغرق به عند هبوب أقل قدر من الرياح، ومع كل موجة ترتفع في الوجوه الشاحبة لمن يحملهم.
مشهد لا يفارق مخيلة باسم أحمد، الشاب الثلاثيني الذي أجبرته الحرب والظروف الاقتصادية الصعبة في ليبيا إلى الهجرة نحو أوروبا، حيث ينتظره شقيقه الأكبر، المستقر منذ سنوات في العاصمة البريطانية لندن؛ طمعاً في العمل والكسب وبحثاً عن حياة مسالمة هادئة بعيداً عن أتون الحرب الأهلية، المستعرة في ليبيا منذ 2011 والتي حصدت أرواح عدد مِن أقربِ أصدقائه.
"باسم"، بالكاد يمنع دموعه من الهطول وهو يحاول وصف شعوره عندما أحس بالضعف والضياع والمياه الزرقاء ولا شيء غيرها، تحاصره من كل الجهات واحتمالية الغرق الوارد الأكبر في مخيلة من يجيدون السباحة من رفقاء الرحلة، فكيف به وهو الذي يخاف البحر ولم يخطر بباله يوماً أن يجد نفسه بين أمواجه المتلاطمة على متن زورق خشبي بمحرك بنزين متهالك، لم ينجح طنينه العالي في إخفاء تمتمات الشفاه الخائفة الداعية بالنجاة ولا شيء آخر!
انقطاع قصير في الاتصال عبر فضاء الإنترنت مع "عربي بوست"، يعيد معه "باسم" ترتيب أفكاره من أحد مراكز اللجوء بألمانيا، حيث يقيم منذ أكثر من سنة في انتظار إجراءات اللجوء المعقدة، وسط ظروف ليست بالمثالية تماماً.
وصوله لألمانيا جاء بعد أن هرب إليها من إيطاليا، التي رماه سائق المركب ومن معه بالقرب من شواطئها، حيث خفر السواحل الإيطالي بهرّاواتهم وقيودهم البلاستيكية في الانتظار.
لكن "باسم" لم يمكث في إيطاليا أكثر من 3 أشهر، ليحاول مراراً الهروب من مركز إيواء على أطراف مدينة ميلانو وصل إليه من لامبيدوزا، حيث أُجبر هو ومن معه على بصمة اللجوء ضمن اتفاقية شنغن، حتى أقلّه القطار في نهاية المطاف إلى شرق المانيا.
"باسم" بدأ التخطيط لرحلته منذ اندلاع الثورة الليبية في فبراير/شباط 2011، وجمع المبلغ الذي سيدفعه للمهربين من عمله أشهراً عدة بأحد المطاعم على أطراف العاصمة الليبية طرابلس.. 1000 دولار، هو المبلغ الذي طلبه الوسطاء بين المهرب و"باسم"، واستمر التفاوض حتى خفض المبلغ في نهاية الأمر إلى 500 دولار قرابة "2000" دينار ليبي حينها.
"باسم"، ربما كان محظوظاً؛ إذ لم يتعرض للنصب أو الاحتيال كما حدث مع كثيرين، ولم يتعرض أيضاً للأذى قبل وفي أثناء الرحلة، الأمر الذي يرجعه لكونه ليبيّاً، ولديه معارف أوصوا به لدى المهربين، بعكس رفاقه من المهاجرين الأجانب، وتحديداً الأفارقة، الذين شهد "باسم" تعرضهم للإهانات والشتم والمعاملة السيئة طوال الرحلة وقبلها.
ضعف الدعم الدولي
وتوالى انتشار مقاطع فيديو على الشبكات الاجتماعية تُظهر عمليات تعرُّض مهاجرين لتعذيب وحشي على يد تجار البشر في ليبيا. آخر هذه الفيديوهات، كان مقطعان يُظهران تعرُّض مهاجرين لتعذيب فظيع ووحشية غير مسبوقة.
وجاء ذلك بعد شهرين من بث قناة "سي إن إن" الأميركية شريط فيديو يُظهر عمليات بيع المهاجرين كعبيد في البلاد.
ويُظهر الفيديو الأول مهاجراً وقد تمت تعريته تماماً، وهو يتأوَّه تحت التعذيب، وقد قام السجان بحرق أنبوب بلاستيكي يتقاطر منه سائل البلاستيك على ظهره. أما الفيديو الثاني، فيظهر فيه عدد من المهاجرين، وهم أنصاف عراة، ويطلب منهم مسلح إظهار وجوههم للكاميرا بعد أن تعرضوا للضرب، وآثار التعذيب والندوب والتشويه ظاهرة على أجسادهم، ويبدو من خلال عدم حركة بعضهم أنهم متوفون!
موظف بأحد المكاتب التابعة للمفوضية السامية لحماية اللاجئين في بنغازي (شرق ليبيا)، اشترط على "عربي بوست" عدم ذكر اسمه، قال إن الانتهاكات بحق المهاجرين غير القانونيين ليست جديدة كما يظن البعض، فما يقوم به المهربون منذ اندلاع الثورة في ليبيا قبل 6 سنوات، معروف لدى المهاجرين والجاليات المقيمة في ليبيا وكل المهتمين.
وقال: "أضف إلى ذلك، مراكز الاحتجاز المسماة مراكز إيواء، والتي يصر المسؤولون على تسميتها هذا الاسم، في حين أنها ليست صالحة بتاتاً لأبسط مقومات الحياة الإنسانية. كما أنها تمثل خطراً حتى على العاملين فيها من ضباط وجنود؛ فلا توجد إجراءات صحية من شأنها حماية المهاجرين أو العاملين في تلك المراكز".
ويرى الموظف في المقابل، أن دور المنظمات الدولية ضعيف جداً في ظل وجود الآلاف من المهاجرين بمراكز الإيواء الليبية، وغالبيتهم العظمى في المنطقة الغربية بحكم حدود المنطقة الغربية جنوباً وقربها شمالاً من الدول الأوروبية، الوجهة الرئيسية للمهاجرين.
وأضاف أن الانتهاكات لن تتوقف، في ظل غياب سلطة مركزية وضعف الدعم المقدم من الدول الأوروبية والذي يتركز في البحر وليس بالصحراء نقطة انطلاق المهاجرين، الذين يأتون من دول يفضلون الموت على البقاء فيها، وكثير منهم يعرفون ما سيلاقونه ورغم ذلك يأتون؛ أملاً في الحلم الأوربي.
الخبير في هذا المجال، بعد قليل من التردد والترقب، أخبر "عربي بوست" بأن المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة تقوم برعاية مواطني 7 دول فقط؛ هي: إريتريا، والصومال، وإثيوبيا (إثنية الأرومو)، والسودان (دارفور)، إضافة إلى سوريا وفلسطين والعراق وجنوب السودان.
لكنه يؤكد في الوقت نفسه ضعف الخدمات الصحية والمالية والنفسية المقدمة مقارنة بالأعداد الهائلة للمهاجرين من هذه الدول، وتبقى المشكلة أن بقية الجنسيات وأغلبها من غرب إفريقيا، غير معترف بها من قِبل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين كطالبي لجوء.
وقال: "ليبيا -كما نعرف- ليست موقِّعة على اتفاقية حماية اللاجئين، الأمر الذي يُضعف دور المفوضية الضعيف أصلاً، حيث أصبح دور المنظمة الدولية للهجرة مقتصراً على إرجاع المهاجرين لبلدانهم ضمن برنامج العودة الطوعية، في حين هي في الحقيقة ليست طوعية بتاتاً، ولكن ليس للمهاجرين خيار؛ فعودتهم أفضل من بقائهم في مراكز الاحتجاز".
واختتم حديثه المضطرب، بما يراه الحل المناسب، والذي يتمثل في وقفة جادة من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والأوروبي للإسهام في حل مشاكل الدول التي يأتي منها المهاجرون. أما مجرد التعاطف مع هذه الحالات من المجتمع الليبي، خاصةً وإن قلَّ وندر وصاحَبته حالة من الإنكار لما يحدث من انتهاكات جسام بحق هؤلاء المهاجرين- فهو غير كافٍ على الإطلاق. ليبيا لا تُلام وحدها على هذه المشاكل، والشعب الليبي ليس هم المهرب، فشبكات التهريب ليبية سودانية صومالية تشادية عابرة للحدود ويصعب السيطرة عليها بشكل كلي.
يد المهرب أم رجُل الأمن؟
الكلام السابق يؤكده ويوضح بعض أسبابه عماد عبد السيد، الحامل رتبة ملازم أول بمديرية أمن طبرق قسم النجدة، والذي يبرر الأمر، في حديثه لـ"عربي بوست"، بالنقص الرهيب في الإمكانات وغياب الأماكن والمقار الملائمة لاحتجاز وتوقيف المهاجرين غير القانونيين؛ بل إن إجراءات الاحتجاز والتوقيف في معظمها مخالفة للقانون الليبي والأعراف الدولية.
عماد، عند سؤاله عن الانتهاكات التي نُشرت مؤخراً في وسائل إعلام عربية وغربية وعلى الشبكات الاجتماعية، أكد بالفعل وقوعها في نطاق عمله وبشكل متكرر.
وتحدث أيضاً عن سوء معاملتهم -أي المهاجرين- من قِبل من يسميهم رجال الأمن غير المؤهلين؛ إذ يكثر بينهم الجهل بالقانون والاتفاقيات الدولية ويفتقر أغلبهم إلى اللباقة؛ ومن ثم ينتهكون حقوق المهاجرين ويُسيئون معاملتهم؛ "بل إن الأمر يصل في كثير من الحالات إلى التعدي والضرب وأشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي بتعرضهم للضرب بالعصيّ والأحزمة".
وأضاف أنه أحياناً يغلب على الأمر التهديد والابتزاز، في ظل انتشار الفساد والرشوة، لا سيما مع ضعف المرتبات وتأخُّر صرفها، منذ ظهور أزمة نقص السيولة في المصارف الليبية، الأمر الذي لا يبرر مثل هذه التصرفات، لكنه يبقى أحد دوافعها، إضافة إلى الجهل ونقص التأهيل، حسب رأيه.
وختم الحديث بالكلام عن النقص الكبير في الإمكانات وضعف إمدادات الغذاء والدواء، التي كثيراً ما يتطوع بها رجال أعمال وبعض فاعلي الخير بالمدينة، الذين يتعاطفون مع هؤلاء المهاجرين، القادم أغلبهم من دولٍ كمصر والسودان والصومال وسوريا، وبينهم العديد من القُصَّر وصغار السن الذين يستغلُّهم المهربون وتجار البشر على الحدود مع مصر والسودان عبر الصحراء الليبية مترامية الأطراف؛ طمعاً في عبور ليبيا للوصول إلى الجنة الموعودة على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط.
وبالعودة إلى "باسم"، الذي حقق جزءاً مما يطمح إليه، فقد غادر ليبيا إلى غير رجعة، كما يقول، ووصل إلى أوروبا، لكنه يؤكد أنه لن يكرر تجربة الموت هذه مهما حصل، ولا ينصح أحداً بخوضها؛ لأنه -وببساطة- رأى الموت وعايشه أياماً عصيبة في عرض البحر دون ماء أو طعام أو دواء، وسط كومة من البشر في قارب خشبي صغير، بينهم المرضى والمصابون، مع معاملة سيئة لا تليق بالبشر.