عندما وصل محمد شاهين من مصر إلى المملكة العربية السعودية قبل أكثر من 10 سنوات، كانت الأمور مختلفة لدى المحاسب الخمسيني. أحلام شاهين الصغيرة كانت على وشك التحقق، راتبه المناسب كان كفيلاً بأن يمهد له حياة هادئة مع زوجته وأولاده الثلاثة، والسعودية كانت تبدو بوابته الأولى نحو السعادة.
اليوم، أمام إحدى أسواق مدينة حائل، يقف الرجل، مثل أي موظف يعمل في مصلحة حكومية بالقاهرة، عاجزاً أمام متطلبات عائلته التي لم يتوقع قبل 10 سنوات أن تؤرِّقه لهذا الحد. ليفكر مليّاً فيما إذا كانت سنوات الغربة الماضية تستحق كل هذا العناء.
الخروج إلى "الخليج"
لم يكن قرار السفر إلى السعودية صعباً على شاهين، فالضغوط المتزايدة على المصريين في آخر سنوات الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك لم تكن تسمح لملايين الشباب برؤية مستقبل لهم داخل مصر. في ذاك الوقت، كانت الأرقام تشير إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، على الرغم من ارتفاع الأسعار، لكن صعود النخبة الاقتصادية الجديدة بمصر حال دون تحقيق استفادة فعلية لغالب المصريين، الذين تزايدت الأعباء عليهم بشكل مستمر، وبلا أي أفق في تحسن الأوضاع؛ وهو ما دفع الكثيرين منهم، مثل شاهين، للبحث عن أرض أخرى.
السعودية، على الجانب الآخر من البحر الأحمر، كانت تمثل أقرب أرض للأحلام. تستقبل المملكة المصريين والعرب منذ تأسيسها تقريباً، لكن زادت معدلات استقبال المملكة للمصريين بعد أن فقدت ليبيا بريقها منذ ثمانينات القرن الماضي، ثم الأزمات التي عصفت بالعراق منذ الحرب الإيرانية، والذي كان الوجهة الأولى للكثير من المصريين. ولذلك لم يكن غريباً أن تكون السعودية هي الخيار الأول لشاهين.
عندما جاء شاهين إلى المملكة، كانت قيمة الريال السعودي تتجاوز قيمة الجنيه المصري بنسبة قليلة (في نهاية 2007، كان 1 ريال يساوي 1.4 جنيه مصري تقريباً)، المغتربون يتجاوز عددهم 7 ملايين شخص من بين 24 مليوناً هم كل سكان المملكة، والوضع السياسي مستقر في ظل حكم الملك عبد الله القويّ. إضافة إلى ذلك، السعودية كانت تعيش لحظة ازدهار حقيقية، أسعار النفط كانت تتضاعف، ليصل سعر برميل النفط في الفترة نفسها إلى 100 دولار لأول مرة.
الريال الجامح .. كيف بدأت السعودية في جذب العمالة؟
شاهين، الذي يفكر الآن في الرحيل عن المملكة بعد 11 عاماً قضاها فيها، كان يعتقد أن الأمور ستسير بطريقة مختلفة، فالاقتصاد السعودي مبنيّ بالأساس على صناعة النفط، وهي الصناعة التي بُنيت أساساً على العمالة الوافدة؛ ولذلك فبقاء الوافدين، لأول وهلة، يبدو مرتبطاً بأساس الاقتصاد السعودي ذاته.
ففي مطلع الثلاثينيات، وتحديداً في ربيع عام 1933، وجد الملك عبد العزيز بن سعود نفسه مضطراً، بعد أزمة اقتصادية كانت في جزء منها بسبب الكساد الاقتصادي العالمي، إلى الترحيب بممثلي شركة ساندارد أويل أوف كاليفورنيا النفطية، في جدة؛ من أجل مفاوضات استمرت أسبوعاً، وافق السعوديون في نهايتها على منح الشركة الأميركية امتياز التنقيب على حساب شركة "نفط العراق" المملوكة لبريطانيا، لتتولى شركة Standard Oil of California عملية التنقيب، قامت الشركة بعد ذلك بإنشاء شركة تابعة لها تحت اسم شركة الزيت العربية-الأميركية أو أرامكو (Arabian American Oil Company – Aramco)، وانتقل المقر الرئيسي من الولاية الذهبية ليستقر في الظهران على الساحل الشرقي للمملكة.
نظرة على أرشيف صور مجلة Sun and Flare الخاصة بشركة "أرامكو"، تكشف لنا إلى أي مدى أدى تدفق البترول إلى تحويل البلاد، فالمملكة لم تعد أرض الصحراء كما كانت لقرون طويلة، وها هي طرق تُشق ومدن تُنشأ، وقصور تُشيّد، ومستشفيات ومصانع ومدارس وجامعات… إلخ. شُيدت الدولة من جديد، وهو ما استوجب استقدام عمالة من الخارج للتنفيذ والإدارة. وهكذا تحولت السعودية إلى قِبلة الباحثين عن لقمة العيش.
تغيرت التركيبة الاجتماعية للمملكة، لم يعد السعوديون يَقبلون بالمهن (الدنيا)، كما بات الوافدون يشكلون عماد كثير من القطاعات الخدمية كالصحة والتعليم. أيضاً، مكّن ارتفاع سعر النفط أمراء السعودية من الإنفاق ببذخ على مشاريع تحديث المملكة وإرضاء السعوديين. كان الكل سعيداً.
الريال يتلقى الضربات .. ومواطنو المملكة أيضًا
قضى شاهين سنواته في المملكة وسط تغيرات عنيفة تشهدها المنطقة، اندلعت ثورات الربيع العربي لتقف منها المملكة موقفاً معادياً في الغالب، ثم لتمد أذرعها لاحقاً في مصر وسوريا ثم اليمن، لكن على الرغم من ذلك، لم يشعر المواطن السعودي بأثر هذه التقلبات الهائلة بشكل مباشر، بيد أن تغييراً واحداً كان هو الأكثر تأثيراً على الجميع.
فقد أدى الانهيار المذهل في أسعار النفط إلى انخفاض هائل بالاحتياطي النقدي السعودي قدره 150 مليار دولار، ودفع العائلة الحاكمة إلى اختلاق خطة إنقاذ مالية عاجلة، تم إعدادها في عجالة.
كانت الأزمة طاحنة، إلى الحد الذي دفع الأمير محمد بن سلمان للإقرار في حديثه مع وكالة "بلومبيرغ" الاقتصادية، بأن السعودية كانت على وشك مواجهة شبح الإفلاس بعد عامين، لو لم تغير سياستها الاقتصادية.
وفي 25 أبريل/نيسان 2016، أعلن بن سلمان -ولي ولي العهد حينها- خطة "رؤية 2030″، لإحداث ثورة في الاقتصاد السعودي بإنهاء اعتماده على النفط.
تركز "رؤية 2030" على خلق وظائف للسعوديين، لإدارة اقتصاد حديث إنتاجي غير ريعي. وعلى الرغم من غياب الخبرات السعودية اللازمة لتأسيس البنية التحتية لهذا الاقتصاد الصناعي الجديد، لا تبدو الحكومة عازمة على تيسير شروط استقدام الموظفين المغتربين، سواء في ذلك المديرون ذوو الأجور المرتفعة أو الاختصاصيون المهرة، وهذا يعني من ضمن ما يعني، تقليل الاعتماد على الوافدين على المديَين المتوسط والطويل.
قدّمت السعودية "رؤية 2030" ضمن حزمة إصلاحات اقتصادية كبيرة، شملت السعوديين والوافدين. شملت هذه الإصلاحات فرض ضرائب بالإضافة إلى رسوم على الوافدين ومرافقيهم، ورفع الدعم عن المحروقات، وخفض الدعم عن المَرافق مثل الكهرباء والمياه. هذه الإصلاحات اليوم هي التي تضطر شاهين وأسرته مجبَرِين إلى الرحيل في أية لحظة بعد أن جعلت إقامة الوافدين باهظة التكاليف.
الريال يقاوم .. والوافدون جرحى المعركة
يعمل شاهين في شركة بدوام كامل، ويحصل مقابل عمله على راتب 5000 ريال شهرياً. "معظم الوافدين هنا يقومون بأعمال حرة إضافة إلى وظائفهم"، يقول المحاسب، ويتابع: "كنت أعمل بعد الظهيرة في أحد المراكز التجارية براتب 4 آلاف ريال إضافية، كانت الأمور جيدة، وكنت أدخر 2000 ريال شهرياً تقريباً".
اليوم، فقد شاهين وظيفته في السوق بسبب قرارات السعودة، والتي استهدفت في بعضها المراكز التجارية (المولات) على وجه التحديد، أي إحلال السعوديين محل الأجانب في الوظائف.
عمليات السعودة التي بدأت في الخطة الخمسية الرابعة (1985-1990)، ففي عام 1985، كان الوافدون يشكلون أكثر من 71٪ من موظفي وعمال المملكة، وعلى الرغم من المحاولة الجادة خلال هذه الفترة، والتي تمثلت في طرد أكثر من 300 ألف عامل غير نظامي، إلا أنها لم تحقق أثرًا كبيرًا في زيادة نسبة السعوديين بين الموظفين والعمال في المملكة.
الآن، تفرض السلطات أعباءً إضافية على الوافدين بفرض رسوم شهرية على المرافقين، بدأت بـ100 ريال شهرياً، تتصاعد سنوياً لتصل إلى 400 ريال بحلول 2020، وهو ما يعني أن شاهين سيكون ملزماً بدفع 24 ألف ريال سنوياً حينها عن أفراد عائلته الخمسة، أي أقل قليلاً من نصف راتبه السنوي.
بخلاف الرسوم الشهرية، يعاني المواطنون السعوديون جراء هذه الإصلاحات الاقتصادية، لكن السلطات تحاول باستمرارٍ التخفيف من وطأة هذه الإصلاحات، فقد أعلن الملك سلمان تخصيص 50 مليار ريال فيما عُرف باسم "بدل غلاء"، والذي بموجبه سيتم إعطاء 1000 ريال شهرياً مدة عام كامل للمواطنين؛ تعويضاً لهم عن غلاء المعيشة. إضافة إلى ذلك، سيحصل المواطنون السعوديون ذوو الدخول المنخفضة على دعم مالي ضمن برنامج "حساب المواطن"، وهو منصة دعم مالي للسعوديين المتضررين من الإصلاحات الاقتصادية ورفع الدعم عن السلع والخدمات.
فمثلاً، يمكن لمواطن سعودي يحصل على الراتب نفسه الذي يحصل عليه شاهين، وبظروفه العائلية نفسها، أن يتمتع بـ1000 ريال إضافية ضمن بدل الغلاء، إضافة إلى 900 ريال ضمن برنامج حساب المواطن، وهو المبلغ الكافي له لإدارة حياته بلا ادخار.
مؤخراً، قررت السلطات السعودية فرض رسوم جديدة، باسم المقابل المالي للعمالة الوافدة مقابل الوطنية، حيث يتوجب على الشركات السعودية دفع 400 ريال شهرياً منذ بداية العام الجاري، عن كل موظف وافد تقوم الشركات باستقدامه، وهو الأمر الذي سينعكس بالتأكيد، على الآلاف من العمال والموظفين في القطاع الخاص السعودي.
الآن، لم يعد أمام شاهين أي خيار سوى إعادة أسرته إلى مصر. "من غير الممكن أن أدفع هذه المبالغ لإقامة زوجتي وأولادي معي".
هناك ما يقرب من 11 مليون وافد يعملون في المملكة، ويقيم معهم 2.3 مليون شخص من أسرهم وفقاً للإدارة العامة للإحصاء، وهذه قد تكون الأرقام الأولية للمتأثرين بالقرارات الاقتصادية الأخيرة.
الكساد وليست الرسوم السبب
معاذ أبو عون، وهو مهندس أردني، عمل في السعودية 6 سنوات بإحدى الشركات الكبرى قبل أن يضطر إلى العودة لعمّان مع التغييرات الأخيرة، يعتقد أن شاهين يعبر عن الملايين الذين شكَّلت الرسوم عبئاً ضخماً على حياتهم، لكنه لا يعتقد أن زيادة التكلفة هي السبب الأكبر للهجرة العكسية من المملكة.
"الكساد هو السبب" يقول أبو عون، ويضيف شارحاً: "المشاريع الضخمة هي عماد الاقتصاد السعودي، والتي يتم تكليف الشركات الكبرى إياها، والتي بدورها تسندها إلى شركات أصغر من الباطن".
يتحدث أبو عون هنا عن أن دورة المال كانت تمر عبر العديد من الأيدي، لكن نتيجة انخفاض أسعار النفط، والإنفاق السعودي على حرب اليمن وغيرها، تم إلغاء الكثير من المشاريع، وتوقفت الدولة عن سداد مستحقات الشركات؛ وهو ما أدى إلى إفلاس بعضها واشتداد الأزمات على بعضها الآخر. يقول أبو عون بأسى بالغ: "هناك أكثر من 375 مليار ريال ديوناً على الشركات بالمملكة".
أبو عون يمثل شريحة كبيرة من الموظفين، فراتب أبو عون الشهري كان يتجاوز 20 ألف ريال، وهو ما يجعله قادراً على سداد الرسوم المطلوبة من دون أن يتأثر موقفه المالي بشدة، لكن رحيله عن المملكة جاء بسبب إنهاء الشركة التي كان يعمل معها العقد؛ بسبب توقف أعمالها.. "الكساد مرة أخرى هو السبب".
تمييز برعاية السلطة!
"أمضيت سنوات طويلة في المملكة، لكني لم ألمس تمييزًا ضد الوافدين مثل الذي نراه هذه الأيام"، يقول محمد شاهين، مشيراً إلى أن الأمر ازداد بشدة بعد أن وصف الأمير بن سلمان الوافدين بأنهم "أجانب".
لاحقاً، استخدم السعوديون هذه الكلمة بكثرة، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي وموقع تويتر.
أبو عون يتفق مع شاهين في ازدياد النزعة الرافضة للأجانب. لكن هذه النزعة تطرح الكثير من الأسئلة عن قدرة المملكة على ملء الفراغ الذي سيتركه هؤلاء الوافدون.
لكن بعض السعوديين يتفقون مع مخاطر التضييق على العمالة الوافدة، وشارك بعضهم ذلك عبر موقع تويتر أيضاً.
سنتين ونشوف السعودية مافيها احانب عاد نشوف فعلا هل نقدر نعيش بدونهم ?
— Nasser_❄️ (@nagd_saudi) December 19, 2017
الوافدون يمثلون حالياً قرابة 32٪ من السكان في السعودية، وهي النسبة التي ستزداد مقارنة بعدد العاملين والموظفين في المملكة؛ ولذلك فإن استمرار الضغط عليهم قد يؤدي إلى أزمة غياب للأيدي العاملة الماهرة في البلاد.
بعض السعوديين يدركون هذه الحقيقة بالفعل إلى حد أنهم يتحايلون على السلطات من أجل تمرير عمل الوافدين في بعض الأماكن. فقد رصدت "عربي بوست" عبر شهادات متطابقة لمواطنين سعوديين وجود عمال غير سعوديين في عدد من المحال داخل المراكز التجارية الكبرى بشكل غير ظاهر للمتسوقين. فمثلًا توظف بعض محال تصليح الهواتف النقالة أو أجهزة الكمبيوتر غير سعوديين في الأسواق التجارية، مع إبقاء مواطن سعودي في واجهة المحل لاستقبال الزبائن.
بلادهم غير مستعدة لهم
يعتقد عادل حنفي، رئيس الاتحاد العام للمصريين بالخارج والمتحدث الرسمي باسم الجالية المصرية في المملكة، أن التوطين الكامل قادم لا محالة. "بالقطع، هذا لن يتم على خطوة واحدة؛ بل على مراحل قد تستغرق عدة أعوام"، يقول حنفي ويتابع: "آت لا ريب فيه".
النائب جمال عقبى، وكيل لجنة القوى العاملة بالبرلمان المصري، يستبعد أن يعود المصريون العاملون بالسعودية إلى مصر قريباً، لكنه يؤكد مبتسماً: "نحن مستعدون لعودتهم، فخطتنا قائمة على التوسع في المشاريع الصغيرة والمتوسطة". لكن الأرقام ليست في صالح عقبى؛ إذ يبلغ عدد العاطلين عن العمل في مصر أكثر من 3.4 مليون عاطل، وهو الرقم الذي قد يصل إلى 5 ملايين إذا اضطر نصف المصريين المقيمين في السعودية إلى العودة للبلاد، والذين تقترب أعدادهم من 3 ملايين عامل.
أما في الأردن، الذي تبلغ نسبة البطالة فيه 18.5٪، فيبدو مسؤولوه أكثر واقعية. حمادة أبو نجم، الأمين العام السابق لوزارة العمل الأردنية، يقول: "لا توجد خطه لاستقبالهم إذا عادوا"، يسكت وهلة ويتابع: "لكني أؤكد لك أنه لن تحدث عودة جماعية".
الآن، وبعد سنواته الطويلة في المملكة، لم يقرر شاهين بشكل نهائي إذا ما كان سيعود إلى مصر قريباً.. "لا أعرف ما الذي يمكنني فعله، كل ما أعرفه أنني لا أمتلك بديلاً إذا عُدت".