إن تاريخ الاحتفال ببداية العام الجديد لا يتوقف عند يومنا هذا، ولا عند مطلع العصر الحديث، بقدر ما تمتد جذوره إلى الحضارات الرافدينية، والحضارات القديمة بوجه عام.
ولهذه المظاهر الاحتفالية أبعاد تكوينية في الفكر الديني والأسطوري، باعتبارها تحمل رموز ودلالات الزمن الهيولي الراكد الذي يحيل إلى أرض الموت والهدوء والسكينة، وبداية الزمن الإلهي الدالّ على مباهج الحياة وزينتها.
وتتمثل رمزية هذه الاحتفالات: كون أن الإنسان هو المعنيّ بالحفاظ على زهرة الحياة بعد أن وكّل له الأمر من طرف قوى عليا؛ ولما كانت حياتنا محكمة بدورات زمنية تحمل دلالات العود الأبدي، فإن المشاركة الرمزية للإنسان في "إفناء العالم وإعادة تجديده، يتوحد رمزياً في فعل الخلق الكلي الهائل، ويتجدد هو نفسه أيضاً"؛ بل ويجدد الأواصر بين دنيا الإنسان التي من شأنها أن تحدث صلة مع عالم الآلهة، من خلال مجموعة من الطقوس "والأفعال المتعلقة بأسلوب التعامل مع ذلك العالم؛ إنه اقتحام على المقدس وفتح قنوات اتصال دائمة معه"؛ لتكون هذه البداية التكوينية، "مكررة شعائرياً بمناسبة كل سنة جديدة، وهذا السيناريو الأسطوري الشعائري تأكد في الشرق الأدنى وعند الهندو – إيرانيين".
ومثاله: تلك المظاهر التي أرّخها عيد "الأكيتو" (مطلع العام السومري والبابلي)؛ حيث تميز باحتفالات إعادة تمثيل وتجسيد أسطورة "الإينوما إيليش Enuma Elish"، في رمزية -ولو مؤقتة- "لإعادة إنشاء الزمن الميطيقي والبدئي، الزمن النقي، زمن لحظة الخلق. كل سنة جديدة فهي عودة بالزمان إلى بدايته، أي تكرار لولادة الكون".
وتتجلى فكرة العود الأبدي مع نهاية كل عام واستقبال آخر جديد، باعتبار أن هذه العقيدة وإن كانت مقسمة إلى زمنين مختلفين: زمني أخروي مقدس، وزمن دنيوي مدنس، يمثلان آخر الأمر دورة الحياة الكبرى. وضمن هذه الدورة الكبرى نجد هناك أعياداً أو دورات صغرى تعيد تكرار الزمن التاريخي، وتنقسم زمنياً إلى: "أعياد أسبوعية، أو شهرية، أو فصلية، أو سنوية".
ومع بداية كل دورة من هذه الدورات الزمنية فإنها تحمل في دلالاتها بدء الخليقة وتجديدها؛ وتزداد أهمية تلك الدورات الكونية كلما تباعد زمانها وتعددت المظاهر الدينية والطقسية التي ترمز لها اجتماعياً وحضارياً.
ومن بين المظاهر الطقوسية ذات البعد التكويني، نسترجع الصراع الأسطوري الذي كانت غلبته للإله مردوخ Marduk على حساب الإلهة تعامة Tiamat، "وقد كان هذا النصر رمزياً يتكرر كل سنة؛ لأن العالم كان يتجدد في كل عام، غير أن العمل المثالي للنصر الإلهي كان قد تكرر كذلك بمناسبة كل إنشاء؛ لأن كل إنشاء جديد كان يعيد خلق العالم".
وفي الفكر الديني اليهودي يتم الاحتفال برأس السنة باعتباره يرمز إلى بدء الخليقة، وإلى يوم الحساب السنوي الذي تمر فيه المخلوقات جميعها أمام الله، "كما يعد أيضاً: أنه أول أيام التكفير التي يبلغ عددها عشرة، والتي تنتهي بأقدس يوم لدى اليهود على الإطلاق، وهو يوم الغفران".
وفي الفكر الديني المسيحي، نستحضر أبعاد الميلاد اليسوعي باعتباره الفادي الذي تمازج فيه اللاهوت بالناسوت، حتى يتم الخلاص الروحي والجسدي للمؤمنين الذين أعوزتهم الخطيئة؛ ليتم القول: "هَكَذَا أَحَبّ اللهُ الْعَالَمَ حَتّى وَهَبَ ابْنَهُ الْأَوْحَد، فَلَا يَهلِكَ كُلّ مَنْ يُؤمِنُ بِه، بَل تَكُونُ لَهُ الحَيَاة الْأَبَدِيّة".
لينجلي من وراء الولادة اليسوعية وقيامته، دورة الزمن المقدس الذي جدد دورة الحياة بعد أن دخلها الشر.
وفي الفكر الديني الإسلامي نلمح إلى النصوص الدالة على مفهوم الزمن، والتي تحيل إلى معاني دورات الحياة وتجديدها: "أَيّهَا النَّاس إِنَّ الزّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ، فَهُوَ اليَوْمَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ…". كما تمت الإشارة إلى الحلقة الشهرية الصغرى، فالأصغر منها، من خلال أدعية وأوراد يومية: (اللّهُمَّ أَهِلّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسّلَامَةِ وَالإِسْلَامِ). وكذلك: (أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلهِ…)
وعوداً على ذي بدء، فإن العالم الجديد المنبثق من القوى الإلهية قد اقتضى بالضرورة حركة خلاقة في بداية الزمن الدنيوي؛ وهو ما نراه اليوم يتكرر مطلع كل عام جديد من خلال الاحتفالات الشعبية التي تجاوزت خصوصية الجغرافيا والتراث الجزئي، لتنفتح على الروافد العالمية وتستقي من تصوراتها الدينية وأبعادها الاجتماعية، لتعيد تصوير هذه الرمزية التكوينية، وإن اتسع الفرق وتباعد الزمن وتلاشت الفكرة، مع بقاء الجوهر المتمثل في المظاهر الاحتفالية التي يستعيد الإنسان من ورائها تلك النشكونيات الدالة على خلق العالم في نسخ جديدة، كتكرار للخلق الأول.
وما أبعاد تلك الفرحة العارمة والبهرجة الباذخة والإسراف في شتى أصنافها، إلا دلالة على إلغاء الزمن الدنيوي والانغماس في الملذات من قبيل: "إطفاء النيران، وعودة أرواح الموتى، والاضطراب الاجتماعي من نوع الساتورنالات (أعياد فاحشة عند الرومان)، والإباحة الجنسية، والتهتكات… -التي- كانت ترمز لانكفاء الكون في العماء. وكان العالم في آخر يوم من السنة يذيب نفسه في المياه البدئية"، أي الزمن الأصلي "الذي سبق النشأة الكونية، وتكون الشرائع والمحرمات في حكم المعلقة خلال هذه الفترة".
لكأن هذه المظاهر قد بدأت طقسياً بالرجوع إلى حالة اللاتشكل، وسلّمت نفسها للأفعى الكونية التي تتحين اللحظة الفاصلة لتُطْبق بفكيها على زهرة الحياة، وتعود بها إلى الزمن الهيولي. لولا أن انبرى الإله مردوخ لمحاربة تعامة، وشق جسمها لخلق الأكوان وأخرج من ظلمتها زخرف الحياة، إيذاناً بخلق وجود جديد.
ويشعر الإنسان بهذا الخلق المتكرر الذي يغدو فيه أكثر طهراً وحيويةً، كلما شارك في الطقوس الدالّة على رمزيته، وربط أواصر الصلة مع عالم المقدسات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.