أكاذيب التنمية البشرية

أنا واحد ممن نهموا الكثير من كتب ما يسمى بالتنمية البشرية، إلى أن مللتها وحفظتها عن ظهر قلب، بل وصارت لديّ الإمكانية في أن أصبح محاضراً أبني للآخرين قصوراً من رمال وأبيع لهم السمك في البحر، أنا واحد ممن اكتشفوا في آخر المطاف أنها مجرد خدعة، أغلبية تلك الكتب -إن لم أقُل كلها- تمشي في النسق نفسه، وتبني على نفس الرؤى والأفكار.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/26 الساعة 03:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/26 الساعة 03:40 بتوقيت غرينتش

أنا واحد ممن نهموا الكثير من كتب ما يسمى بالتنمية البشرية، إلى أن مللتها وحفظتها عن ظهر قلب، بل وصارت لديّ الإمكانية في أن أصبح محاضراً أبني للآخرين قصوراً من رمال وأبيع لهم السمك في البحر، أنا واحد ممن اكتشفوا في آخر المطاف أنها مجرد خدعة، أغلبية تلك الكتب -إن لم أقُل كلها- تمشي في النسق نفسه، وتبني على نفس الرؤى والأفكار.

فكرة التنمية البشرية أصبحت وهماً كبيراً، وخلقت لنفسها كتاباً وأفلاماً وأتباعاً ومحبين بلا عدد، ومن شتى بقاع العالم وأصبحت تجارة رخيصة، وأي كتاب من تلك الكتب لا يخلو من الكلمات نفسها والأمثلة ذاتها، فتجدهم يحدثونك عن صاحب فكرة دجاج كنتاكي، وكيف أن الرجل كان جندياً أميركياً متقاعداً، وكيف ساءت ظروفه المالية واكتشف فجأة طريقة خاصة لطهو الدجاج فغزا الرجل العالم بفكرته ودجاجه، إلى قصة الياباني هوندا ودوره في صناعة السيارات، دون إغفال قصة بيل غيتس وتخليه عن مساره الدراسي وستيف جوبز وصاحب الفيسبوك مارك زوكربيرغ وآخرين.

تقول لنا تلك الكتب: إنه كي تنجح يجب أن تستيقظ كل صباح، وتقول لنفسك طيلة اليوم: أنا ناجح، أنا ناجح، فيما يشبه الضحك على الذقون، وجعل الناس يتوهمون أنهم قادرون على تحقيق أحلام تتجاوز بكثير قدراتهم الحقيقية.

صحيح أن تلك القصص قصص نجاح حقيقي، تستحق منا كل التقدير والاحترام، لكن الحقيقة أن الظروف تختلف من شخص لآخر، ولا يمكن للواحد منا أن يلقى نفس قدر ومصير الآخرين، وأضِف أن أغلبية القصص منبعها دول تمثل نموذجاً حقيقياً للعمل والكفاح، وفي كل الأحوال لا يمكنك أن تقارن الحياة وشكلها في بلد كاليابان أو الصين أو ألمانيا أو الولايات المتحدة الأميركية مع الشكل الموجود في دول العالم الثالث بصفة عامة والدول العربية بصفة خاصة، فنحن أصلاً لا نزال نتساءل عن مدى جواز سياقه المرأة للسيارة من عدمها.

في الدول العربية كل شيء يقتل فيك الأمل، من الأسرة للمدرسة للشارع وفي العمل، ولا تتاح لك الفرصة بشكل كبير لتعمل ما تحب أو حتى تقترب منه، فتجد الواحد منا ابتدأ فقيهاً حافظاً لكتاب الله في مسجد صغير ثم أصبح حلاقاً في زاوية الشارع، وانتهى به الحال يبيع تذاكر المباريات في السوق السوداء، وكم واحداً كان حلمه أن يصبح مطرباً مشهوراً فأغلقوا أمامه جميع الأبواب! وكم من موهبة كروية لم ترَ النور! وكم من واحد كان بائع دجاج فأصبح كهربائياً، كل هذا لأن لقمة العيش حارة في سجوننا -عفواً في أوطاننا- وبيل غيتس نفسه لو عاش بيننا لكان سينتهي به المطاف وفي أحسن حال صاحب مقهى إنترنت وبائعاً لبطاقات التعبئة.

في السنوات الأخيرة كلما فتحت صفحتي على الفيسبوك إلا وأجد العديد من الدورات التي لا تنتهي بعناوين مختلفة، هدفها إثارتك ودفعك للحضور بأي طريقة، فهذا يكتب عنواناً يقول لك فيه: كيف تجلس قرب العروس في ليلة الزفاف بدون أن تعرق، والواحد منا أصلاً متخرج في الجامعة منذ فجر الاستقلال ولم يجد بعد عملاً، وآخر يقدم لك دورة عن كيف تصبح مخططاً بارعاً كأنما ورث عن والده شركات وأراضي ومشاريع وهو بالكاد يملك ثمن التذكرة للرجوع للمنزل بعد أن حشوا رأسه بالأحلام.

الحياة -في نظري على الأقل- بنسبة ثمانين في المائة عمل وصبر وكفاح، ونسبة العشرين المتبقية حظ، رغم أن الكثيرين قد يعترضون على هذا التقسيم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد